** هكذا هي تركيا.. فما بين ليلة وضحاها تتغير اهتمامات مواطنيها في متابعة أحداث البلاد المتسارعة غير أنها لا تتبدل في ملاحقة أنباء حلقات الصراع المتعاقبة بين الأحزاب ذات المرجعيات الإسلامية والمؤسسة العلمانية المدعومة من جنرالات الجيش والقضاة ورؤساء الجامعات, والتي تشهد من آن لآخر العديد من المستجدات كان آخرها أمس عندما استيقظ الأتراك علي صدمة قبول المحاكم الدستورية النظر في طلب المدعي العام لمحكمة التمييز عبدالرحمن يالشن كايا الي محكمة الدستور أعلي سلطة قضائية في البلاد بإغلاق حزب العدالة الحاكم وحظر النشاط السياسي لكل من عبدالله جول رئيس الجمهورية ورجب طيب أردوغان رئيس الوزراء لمدة خمسة أعوام ومعهم71 من أعضاء بارزين في الحزب بتهمة مناهضتهم للمبادئ العلمانية. وبطبيعة الحال انبري الجميع وفق توجهاتهم الفكرية والأيديولوجية في متابعة الموقف ما بين مؤيد ومعارض وهو ما عبرت عنه الصحافة التركية في اليوم التالي لتقديم الطلب الي محكمة الدستور, حيث اعتبرت الصحف المقربة من التيار الاسلامي ومنها علي سبيل المثال لا الحصر صحيفتا زمان ويني شفق الطلب بمثابة الصدمة واللطمة لمسيرة الديمقراطية واهانة لقرار الشعب الذي جاء بحزب العدالة الي السلطة بنسبة47% في الانتخابات التشريعية الأخيرة, بينما هللت الصحف المعروفة بميولها العلمانية لهذه الخطوة الي الحد الذي عبرت عنه صحيفة حريت, بأن ليلة أمس كانت أسخن ليلة في جو أنقرة البارد. ووصف المراقبون الخطوة بأنها حلقة جديدة تهدد بإشعال التوترات بين الحكومة ذات المرجعية الإسلامية والمؤسسة العلمانية التي تري أن حزب العدالة يسعي الي تقويض الفصل بين الدين والدولة, في الوقت الذي ينفي فيه حزب العدالة أنه يتبني أي جدول أعمال إسلامي, وكانت التوترات قد تزايدت بعدما وافق البرلمان الذي يسيطر عليه الحزب الشهر الماضي علي تعديل دستوري لرفع حظر علي دخول الطالبات المحجبات الي الجامعة. ويخشي المدافعون عن العلمانية الذين لهم نفوذ كبير في المؤسسة العسكرية والقضاء والإدارة الجامعية من أسلمة متنامية للمجتمع في تركيا البلد العلماني, الذي يشكل المسلمون أكثر من99% من سكانه, في حين يدافع حزب العدالة عن نفسه بقوله إنه حزب ديمقراطي يدافع عن هذه الاصلاحات باسم حرية المعتقدات. غير أن الأهم الآن وبعد أن بدأت محكمة الدستور في نظر الطلب المرفوع من قبل المدعي العام الجمهوري لإغلاق الحزب الحاكم, انشغل الجميع في التعرف علي السيناريوهات المتوقعة في حالة اقرار المحكمة للطلب, وهو الأمر الذي يطرح بقوة حاليا في الشارع التركي سؤالا محددا مفاده.. هل يلقي أردوغان نفس مصير أستاذه نجم الدين أربكان حينما تم إغلاق حزب الرفاه في نهايات القرن الماضي؟ وكعادة الأتراك أسفرت الدعوي المرفوعة عن انقسام حاد في المشهد السياسي ما بين مؤيد ومعارض, فالمعارضون يرون صعوبة عودة عقارب الساعة الي الوراء مرة أخري, مستندين في ذلك الي القوة التي يتمتع بها الحزب علي الصعيد الشعبي والذي جاءت به الي السلطة في الانتخابات التشريعية بنسبة47% من أصوات الناخبين, معتبرين أن إغلاق الحزب يمثل مساسا بالتجربة الديمقراطية التي عبر عنها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بقوله إن هذا المطلب يشكل تعديا علي إرادة الأمة, وقول محمد مير فرات نائب رئيس الحزب, بأن المستهدف في هذه القضية ليس حزب العدالة بل الديمقراطية التركية, كما يستند هذا الفريق الي أهمية القيود المفروضة من الاتحاد الأوروبي الذي تتفاوض معه تركيا لتحقيق العضوية الكاملة وفي مقدمتها عدم تدخل الجيش في الحياة السياسية للبلاد, وتحذيراته من مغبة تدخل القضاء في مسيرة التجربة الديمقراطية التي تعيشها تركيا حاليا. ويأتي ذلك في الوقت الذي يعتبر فيه الفريق المؤيد لخطوة المدعي العام الجمهوري أنها لا تمس مسيرة الديمقراطية من قريب أو بعيد, سيما وأنها تأتي في سياق الدستور والقانون الذي يخول هذا الحق للمدعي العام الجمهوري, بعد أن لاحظ أن تخفيف الحظر علي الحجاب في الجامعات وتشديد لوائح معينة بشأن استهلاك الكحول من الأدلة الدامغة لمناهضة المبادئ العلمانية. ومهما يكن الأمر فإن تركيا علي موعد مع أحداث مخيفة جدا تجري خلال أسبوعين علي خلفية الخطة الأساسية الكامنة في رأس كبير المدعين العامين عبدالرحمن يالشن كايا من وراء فتحه الدعوي لحظر حزب العدالة, ومعها بدأ خبراء القانون في تركيا يتحدثون عن سيناريوهات متعددة بشأن مستقبل الحزب تتلخص في مجموعة سيناريوهات مطروحة من الناحية القانونية وهي: أن تحكم المحكمة بحظر الحزب. أو بحظر بعض الوجوه السياسية ووضع يدها علي أموال الحزب بدلا من حظره بالكامل. ومن ثم يقول الخبراء أن الاتجاه الغالب للمحكمة خلال نظرها لملف الدعوي في مدة تتراوح مابين5 إلي6 أشهر ستحكم بحظر الحزب وهذا يعني بأنه ستكون هناك ضرورة لإجراء انتخابات مبكرة فيما سيضطر الأعضاء فيه الي تأسيس حزب جديد. أما في حالة حظر بعض الوجوه السياسية ووضع اليد علي أموال الحزب بدلا من حظره بالكامل, فهذا يعني أن71 عضوا سيخرجون من البرلمان من بينهم رئيس الوزراء ورئيس البرلمان, غير أن ذلك لن يؤثر علي الأغلبية البرلمانية للحزب بما أنه يحظي حاليا ب340 نائبا في البرلمان وبفارق كبير عن الحزب الثاني الشعب الجمهوري الذي يملك98 نائبا ومن ثم فهذا يعني أن الحزب قادر بهذه الأغلبية علي تشكيل الحكومة من جديد, لكن خبراء القانون يرون أن أحزاب المعارضة بإمكانها أن تتصدي لهذا التشكيل الحكومي في حال سقط منها12 نائبا وعندها وطبقا للقانون الدستوري فإنه سيتم إجراء انتخابات مبكرة. ويقول الخبراء في حالة حظر رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان من ممارسة نشاطه السياسي ووضع اليد علي أموال الحزب, فإن أعضاءه لن يتمكنوا من خوض الانتخابات نظرا لانعدام الدعم المالي للانتخابات, غير أنهم سيلجأون في الحالة الأولي إلي التوجه الي الشعب ايمانا بأنه سيدعمهم في جمع التبرعات من أجل الحملة الانتخابية. أما بالنسبة لموقف الرئيس عبدالله جول, المتهم أيضا من قبل الادعاء العام بمساهمته في نشاطات مناهضة للعلمانية, فيري الخبراء بأنها ستكون المرة الأولي في تاريخ الجمهورية التركية التي ينظر فيها هذه الدعوي ضد الرئيس, وعند هذه المرحلة فهناك احتمالان, الأول أن تؤجل المحكمة النظر في ملف عبدالله جول الي ما بعد انتهاء فترة رئاسته أي بعد أربع سنوات, أما الاحتمال الثاني فهو أن تحكم المحكمة بحظره من العمل السياسي, وهو احتمال مرشح لإثارة جدل كبيرا في البلاد بما أن الرئيس يملك حصانة رئاسية ولا يحق محاكمته. وعلي الفور سارع حزب العدالة بزعامة اردوغان الي عقد اجتماع طارئ مع قيادات حزبه لتدارس الموقف القانوني للدعوي المرفوعة ورؤية المستشارين القانونيين للحزب حيالها, ونقلت صحيفة حرييت عن مصادر موثوقة أن الحزب الحاكم يحاول حاليا اقناع حزب الحركة القومية ليدعمه من أجل إجراء تعديلات علي القانون الدستوري تصعب من عملية حظر الأحزاب. وفي كل الأحوال فإن مثل هذه الدعوي التي قد تأخذ شهورا قبل الحسم فيها ستقود البلاد الي فراغ كبير, الي جانب أن العالم كله وفي مقدمته الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا لن يتسامحا مع هذه الدعوي التي يرون فيها تدخلا في الديمقراطية التركية. وأخيرا يتبقي السؤال: هل يلحق أردوغان بمصير أستاذه نجم الدين أربكان؟ وهي حقيقة محتملة ويتوقف الأمر علي تصويت سبعة من أعضاء المحكمة الدستورية من اجمالي11 قاضيا بالموافقة علي طلب المدعي العام.