إذا أردنا ان نحدد بأمانة الأسباب التي تقف وراء ارتباك المشهد في الشارع المصري سوف نكتشف دون تردد ان الإعلام من أهم وأخطر هذه الأسباب.. المصريون ساخطون على إعلامهم.. والدولة حائرة ما بين منظومة للحريات تحاول تأكيدها وغياب للمسئولية بكل جوانبها لدى الإعلاميين.. نحن نعيش حالة انفلات في معنى الحقوق والواجبات وأكبر شواهدها ما يحدث في الإعلام.. وفي ظل عدد رهيب من الفضائيات المفتوحة "ليل نهار" وفي ظل أعداد مخيفة من الصحف السوداء والصفراء ومتعددة الألوان وفي ظل عشرات الأقلام التي لا تدرك مسئولية الكلمة.. وفي ظل المواقع الإلكترونية التي تطارد ملايين الشباب بالأخبار والحكايات والجرائم وأمام نسبة أمية تجاوزت رقم العشرين مليون إنسان.. ومع نظام تعليمي متخلف وثقافة سطحت العقل المصري تبدو منظومة الإعلام أخطر وسيلة لتهديد مستقبل الإنسان المصري في أمنه واستقراره ووعيه وحرياته. لا تحتاج أي دولة أو مؤسسة أجنبية تعمل لإنتاج أفلام أو مسلسلات أو أخبار لتشويه صورة مصر أمام العالم غير ان تترك المهمة لأي مخرج مبتدئ يجلس أمام الفضائيات المصرية ويحذف من هنا ويوصل من هناك ويجمع بعض المشاهد لما يحدث في الشارع ويرصد صور المذيعين والمذيعات وحالات التشنج والصرع التي تصيبهم كل يوم، هذه المشاهد لو تجمعت في فيلم قصير فسوف يفوز بأحد الجوائز العالمية تحت عنوان "كيف تشوه وطنا وتدعو شعبا للانتحار".. على الفضائيات المصرية يمكن في وقت واحد ان تضحك وتبكي وتصاب بالإحباط وربما القيت نفسك من البلكونة أو حاولت اقتحام الشاشة أو تخلصت من التليفزيون.. ما يحدث للمصريين الآن بسبب الإعلام والفضائيات جرائم اغتيال مع سبق الإصرار والترصد.. والأخطر من ذلك هذا الصراخ وهذه الأصوات العالية وكأننا في مستشفى الأمراض العقلية.. وتتساءل أين مدارس الإعلام التي ينتمي اليها هؤلاء؟ أين تعلموا وأين المهنية فيما يفعلون وأين لغة الحوار فيما يقولون؟ حاول مرة ان تغلق الصوت وتشاهد الصورة فقط لتكتشف حجم المأساة التي ترتكبها هذه الوجوه في حق هذا الشعب الغلبان. إذا انتقلنا من الشكل إلى المضمون فسوف تجد ظواهر غريبة انتشرت بين المصريين بسبب الإعلام.. لقد زاد حجم الكراهية بين الناس حتى وصلت إلى ارتفاع حالات الطلاق.. وانقسم المصريون إلى فصائل وميليشيات ومع ارتفاع معدلات الفوضى والعنف أصبحت الدماء فقرة دائمة على الشاشات دون مراعاة لأطفال يجلسون أو أمهات يتحسرن على أبناء رحلوا دون ذنب أو جريمة.. تستطيع ان تشاهد صورة واحدة ثابتة على عشرين فضائية مصرية في وقت واحد.. وتسأل أين مشاكل الناس.. أين أزمات التموين والبطالة، أين أطفال الشوارع أين الباعة الجائلون وقد أصبحوا ظاهرة مخيفة في قلب القاهرة أين سكان العشوائيات أين الدروس الخصوصية وأزمة التعليم أين الأنشطة الثقافية إن وجدت.. ولا تجد شيئا من هذا كل ما تراه طوال اليوم الكاميرات التي اخذت زوايا واحدة أمام جامعة الأزهر أو عين شمس أو القاهرة ولا شىء غير مجموعة من الطلاب يلقون الحجارة على رجال الشرطة.. هل هذه هي مصر من الإسكندرية إلى أسوان.. أليست هناك فصائل أخرى تعيش وتعمل وتفكر.. هناك أمهات في الحقول.. وعاملات في المصانع وشباب ينتج.. هناك جنود يحاربون الإرهاب في سيناء وصيادون يصارعون الأمواج من أجل لقمة عيش شريفة.. اختصر الإعلام المصري تاريخ مصر طوال ثلاث سنوات في مجموعة ضيوف لا يتغيرون على جميع الفضائيات حتى يمكنك ان تشاهدهم عشرات المرات في ليلة واحدة ما بين ناشط سياسي وخبير استراتيجي ورئيس حزب بلا تاريخ أو جماهير وزعيم إعلامي يحرض في كل اتجاه. في مصر الآن دولة جديدة هي دولة الإعلام لا أحد يعرف أهدافها ولا مصادر تمويلها ولا أنشطتها الخفية والمعلنة ووسط هذه الغيوم وهذا الضباب الكثيف لا تجد أحدا تسأله أو تحاسبه.. وفي غيبة كاملة من الدولة يتم إنشاء غرفة لصناعة الإعلام على غرار غرفة صناعة الموبيليا أو الجلود أو السيراميك والرخام.. وتجد شركات احتكارية لإنشاء كيانات إعلامية جديدة دون علم الدولة التي تقام فيها هذه المؤسسات وكأنها وكالة بلا بواب.. وإذا حاولت الدولة إصدار ميثاق شرف للعمل الإعلامي تجد من يقول وما هي مسئولية الدولة في ذلك وبدلا من ان يناقش الإعلاميون هذا الميثاق ويعترضون عليه ويغيرون ما جاء فيه فهم يرفضونه شكلا وموضوعا ويكون السؤال هل أصدرتم ميثاقا ورفضته الدولة وأين ميثاق الشرف الصحفي وأين مسئوليات الإعلام وهو لا يجد من يحاسبه وهل من حق الإعلام ان يشعل كل ليلة الحرائق على الفضائيات ويلقي بالمشاهدين يمينا ويسارا وفي كل اتجاه أمام السطحية والغوغائية والبطولات الكاذبة وبعد ذلك ترفضون أي حديث عن ميثاق شرف أو حساب أو مساءلة. تبحث وسط هذا الركام عن صوت عاقل ولا تجد غير المبالغات في الرفض أو القبول في الهجوم المبتذل أو النفاق الرخيص وتفتش وتسأل أين لغة الحوار.. لا أعتقد ان ما يدور في الإعلام المصري الآن ينتسب من قريب أو بعيد إلى الحوار.. في ظل هذا الانقسام الرهيب بين أبناء الشعب الواحد تحاول ان تبحث عن نغمة هادئة عاقلة تلم الشمل وتوحد الصفوف ولا تجد إلا دعوات مغرضة للفرقة ورفض الآخر وانقسم الشارع أمام الفوضى إلى قوى سياسية متصارعة لا تؤمن بالحوار ولا تعترف بالتعددية.. أمام هذا كان لا بد وان تختفي قيم الثقافة والمصداقية واللغة الراقية والحوار البناء وفي ظل هذه المنظومة تبحث عن أسلوب جديد ومتفتح لحوار ديني متسامح يقوم على الوسطية وتعدد الآراء والترفع في السلوك والأخلاق ولا تجد غير لغة الرفض والتكفير والكراهية. أمام هذا كله.. انقسام مجتمعي خطير.. وغياب للرأي الآخر.. وأدوار مشبوهة لا أحد يعرف مصادر تمويلها ولا أهدافها ولا من يقف وراءها تتساءل هل انتهى دور الدولة تماما؟!.. في تقديري ان الدولة يجب ان تضع الإعلام المصري أمام مسئولياته وليس من المعقول ان تصبح فوضى الشارع وغوغائية المشهد هي الجانب المسيطر على الساحة الإعلامية وهنا اقترح: لا بد من ايجاد وسيلة للتنسيق بين مؤسسات الدولة والمؤسسات الإعلامية ولا أعتقد ان ذلك يمكن ان يتم في صورة إجراءات رقابية فقد انتهى هذا الزمن، ولكن المطلوب مشاركة في المسئولية أمام مجتمع يخوض معركة رهيبة ضد الإرهاب والعنف والفوضى.. وعلى الإعلام المصري ان يقوم بدوره في معالجة قضايا المجتمع وهموم الناس ومكونات العقل المصري لا يمكن ان يقوم بها الإعلام على كاميرا تطوف الشوارع أو تقف حائرة أمام مشهد واحد طوال 24 ساعة ويتصور العالم ان هذه هي مصر ثم نطالب بعودة السياحة ورجوع الاستثمارات.. في حياة المصريين جوانب كثيرة تحتاج إلى حلول وعلاج ومن أهم مسئوليات الإعلام ان يشارك الحكومة في ذلك كله.. لقد غابت حياة المصريين تماما عن الإعلام المصري في السنوات الماضية ويجب ان تعود. اقترح إنشاء مجلس أمناء للفضائيات المصرية الخاصة يتم تشكيله من عدد من أصحاب ورؤساء هذه الفضائيات بحيث يكون مسئولا عن رسم الخطوط المهمة لسياسة هذه الفضائيات بعيدا عن أجهزة الدولة وهذا المجلس يتحمل مسئولية رصد وترشيد ظواهر الشطط والتجاوز فيما يتعلق بقضايا الأمن القومي واستقرار الوطن وأمن المواطنين دون توجيه من الدولة بحيث يقوم بهذا الدور بدافع وطني خالص في هذه المرحلة الحرجة.. وفي نفس الوقت يتم تشكيل مجلس أمناء في كل فضائية من العاملين فيها تكون مسئوليته متابعة ما يقدم فيها مع التنسيق الفني والسياسي مع بقية الفضائيات.. إن المنافسة حق مشروع للجميع وهي وسيلة من وسائل الإجادة والسعي لجذب المشاهدين ولكن لا ينبغي ان يكون ذلك على حساب قيم مهنية وأخلاقية ينبغي ان يلتزم بها النشاط الإعلامي. لا أحد ينكر دور الإعلام المصري الخاص في إسقاط نظامين احدهما بقى في السلطة حتى ترهل والآخر فشل فيها قبل ان يبدأ، وكلاهما كان يستحق الرحيل.. لقد تدفقت أموال كثيرة على الإعلام المصري الخاص خلال هذه الأحداث بعضها من رجال الأعمال المصريين والآخر لا أحد يعرف مصادره ومدى الشفافية فيه ولا يمكن في عصرنا هذا الفصل في مجال الإعلام بين التمويل والرسالة والمسئولية خاصة في بلد اضطربت فيه الأحوال وأصبح مهددا في أهم مكونات وجوده وهو الاستقرار.. إن هناك قوى خارجية كثيرة تلعب في مصر الآن أدوارا مشبوهة وتعتمد في معركتها على الإعلام ولهذا لا ينبغي ان تتخلى الدولة المصرية عن حقها في معرفة مصادر تمويل الإعلام الخاص من خلال أجهزتها الأمنية والرقابية، إنها ليست قضية إعلام فقط ولكنها قضية أمن من الدرجة الأولى ولقد جاء الوقت لكي يتطهر الإعلام المصري من بعض الوجوه التي اساءت له دورا وتاريخا ورسالة. مازلت اطالب بوضع العقل المصري خاصة الشباب على خريطة الإعلام المصري نحن أمام أجيال تسطحت فكريا وسياسيا ودينيا وتحتاج إلى إعادة بناء ولأن الإعلام الأن هو سيد الساحة في تشكيل الأجيال الجديدة ويسبق مؤسسات التعليم وأجهزة الثقافة من حيث الدور والأهمية فلا بد من إيجاد وسيلة لتأكيد أهمية هذه الجوانب في تكوين الشخصية المصرية.. إن كل ما يتعلق بالفكر والثقافة يمثل سلعة ثقيلة في الانتشار والتداول ولكن هذه مسئولية تفرضها الأمانة الوطنية والرسالة الإعلامية تجاه الوطن.. ولا يعقل ان يتركز النشاط الإعلامي على جلب الإعلانات والبرامج التافهة والفن الهابط وكلها افسدت العقل المصري ودخلت به في غيبوبة طويلة من السطحية واللامبالاة.. إن الإعلام مسئولية كبيرة ونحن الآن أحوج ما نكون لوعيه وترشيده في هذه المرحلة التي نواجه فيها إرهابا منظما وحروبا تستخدم فيها كل الأسلحة، ولا ينبغي أبدا ان يكون الإعلام من أسلحة الدمار الشامل التي تستخدمها قوى مغرضة ضد هذا الوطن. ..ويبقى الشعر أنفاسُنا في الأُفقِ حائرة تُفتشُ عن مكانْ جُثثُ السنينَ تنامُ بينَ ضُلوعنَا فأشُم رائحةً لشىء ماتَ في قلبي وتسقطُ دمعتانْ فالعطرُ عطرُكِ والمكانُ.. هو المكانْ لكنَّ شيئا قد تكسَّرَ بيَننَا لا أنتِ أنتِ.. ولا الزمانُ هو الزمانْ عيناكِ هاربتانِ من ثأرٍ قديمْ في الوجهِ سردابٌ عميقْ وتِلالُ أحزانٍ.. وحُلمٌ زائفٌ ودموعُ قنديلٍ يفتشُ عن بريقْ عيناكِ كالتمثَال.. يروي قصةً عبرتْ ولا يدري الكلامْ وعلى شواطئِها بقايا من حُطامْ فالحلمُ سافَر من سنينْ والشاطُئ المسكينُ ينتظرُ المسافرَ أن يعودْ وشواطُئ الأحلامِ قد سَئِمتْ كهوفَ الانتظارْ الشاطئُ المسكينُ يشعرُ بالُّدوارْ لا تسأليِني.. كيف ضاعَ الحبُّ منَّا في الطريقْ؟ يأتي إلينا الحبُّ لا ندري لماذا جاءَ قد يمضي .. ويترُكنا رماداً من حريقْ فالحبُّ أمواجٌ.. وشطآنٌ وأعشابٌ ورائحةُ تفوحُ من الغريقْ العطرُ عطرُكِ والمكانُ هو المكانْ واللحنُ نفسُ اللحنِ أسكَرنَا وعربدَ في جوانِحَنا فذابت مُهجتانْ لكنَّ شيئًا من رحيق الأمس ضاعْ حُلمٌ تراجعَ..! توبةٌ فسدتْ! ضميرٌ ماتَ ليلٌ في دروبِ اليأسِ يلتهمُ الشعاعْ الحبُ في أعمَاقنَا طفلٌ تشرَّدَ كالضَّياعْ نحيا الوداعَ ولم نكنْ يومًا نُفكرُ في الوداعْ ماذا يُفيدُ إذا قضَينَا العمرَ أصنامًا يُحاصِرُنا مكانْ؟ لِمَ لا نقولُ أمامَ كُلَّ الناسِ ضلَّ الراهبانْ؟ لِمَ لا نقولُ حبيبتي قد ماتَ فينَا العاشقانْ؟ فالعطرُ عطرُكِ والمكانُ هو المكانْ لكنني ما عدتُ أشعرُ في ُربوعِكِ بالأمانْ شىء تكسَّرَ بينَنَا لا أنتِ أنتِ ولا الزمانُ هو الزمانْ قصيدة لا أنت أنت ولا الزمان هو الزمان سنة 1981 نقلا عن جريدة الأهرام