ناهيك عن أهمية البعد الاقتصادي في زيارة الرئيس التركي عبدالله جول إلي مصر والنتائج المتوقع تحقيقها في المدي القريب استنادا إلي الاجراءات الفاعلة التي تم اتخاذها علي مدي السنوات الثلاث الماضية من الجانبين ومن أبرزها دخول اتفاقية التجارة الحرة حيز التنفيذ اعتبارا من أول مارس2007 إلا أن الأبعاد السياسية للزيارة تبقي هي الأهم ولاسيما إنها تأتي عقب زيارة جول إلي واشنطن وقبيل استقبال الرئيس حسني مبارك للرئيس الامريكي جورج بوش بيوم واحد. ولعل ما يزيد من أهمية الزيارة أن القاهرة كانت أول عاصمة عربية يتجه اليها الرئيس التركي جول منذ بلوغه مقعد الرئاسة في28 أغسطس الماضي في وقت تموج فيه ثلاثة ملفات عربية بحالة من المد والجزر دون أن تراوح مكانها وهي القضية الفلسطينية والوضع في لبنان والأزمة العراقية والأخيرة بطبيعة الحال وفقا للخبراء في أنقرة تكاد تكون المحور الرئيسي في أجندة الرئيس جول خلال مباحثاته مع الرئيس حسني مبارك حيث تتوافق الرؤي الاستراتيجية لمصر وتركيا حيال هذا الملف في ضرورة العمل علي وحدة العراق ورفض كل الدعاوي أو المقترحات الساعية لتقسيمه إلي دويلات وفقا لحسابات طائفية ما بين سنية وشيعية وأخري كرديه في الشمال وهي مسألة تزعج تركيا كثيرا خوفا من تأجيج النزعة الانفصالية لدي اكراد تركيا الذين يطالبون بوطن قومي لهم في جنوب تركيا الرافضة لهذا المطلب جملة وتفصيلا والتي بذلت جهودا خارقة حتي نجحت بالضغط المباشر علي القوي الدولية في تأجيل عملية الاستفتاء الذي كان من المزمع إجراؤه نهاية العام الماضي في شأن تحديد مصير مدينة كركوك بضمها الي اقليم كردستان من عدمه. وعلي الرغم من علم تركيا المسبق أن رفض مصر لمسألة تقسيم العراق ينبع لأسباب أخري إلا أنها تجد في الموقف المصري محددا كافيا ونقطة إلتقاء باعتبار مصر من القوي الاقليمية ذات التأثير الأكبر في رسم السياسات بالمنطقة لاسيما أن المجتمع والقوي الدولية يضع الرؤية المصرية في مقدمة اهتماماتها لوضوح سياساتها الخارجية الرامية دوما إلي أهمية تحقيق مبدأ السلم والأمن دون أن ترتبط بأي أجندة خفية مقارنة بقوي أخري برغم تأثيرها الفعال في الملف العراقي تحديدا. وربما يتبادر الي ذهن المراقب للشأن العام التركي سؤال وهو لماذا كانت القاهرة العاصمة العربية الأولي التي يتوجه إليها جول منذ توليه منصب الرئيس في تركيا؟ وبطبيعة الحال يمكن القول بسهولة ان مصر هي أهم دولة عربية والي غير ذلك من أسباب وجيهة تتعلق بحقائق تاريخية وأخري جغرافية كما أسهب في ذلك عبدالله جول نفسه حينما قال في تصريحات صحفية قبيل مغادرته أنقرة متوجها الي القاهرة أن تركيا دولة مهمة بين آسيا وأوربا ومصر دولة كبري بين أفريقيا وآسيا في دلالة رمزية علي أهمية الدولتين وضرورة التعاون المثمر بينهما إلا أن هذا الأمر يقودنا بطبيعة الحال الي ضرورة التعرف علي خيارات السياسة الخارجية لتركيا في الوقت الراهن. فتركيا في ضوء التطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط وبعد التغيرات العميقة في النظام الدولي بانتهاء الحرب الباردة وانهيار المنظومة الاشتراكية وما أفرزته حرب الخليج الثانية وتطورات عملية التسوية السلمية للصراع العربي الاسرائيلي الي جانب غزو العراق وهي أمور جميعها جعلها معنيه مباشرة بما يجري في جنوبها وأوجب عليها كما ذكر الباحث عماد خضر في مقاله توجه تركيا نحو الشرق الأوسط.. الأدوار والنتائج.. ولا يفوتنا في هذا المقام الاشارة إلي أن ما سبق توافق مع السعي التركي منذ وصول حزب العدالة الحاكم الي السلطة في عام2002 إلي تعزيز علاقاتها مع جيرانها وبحثها عن عمقها الاسلامي بعد عقود طويلة نأت بنفسها عن البلدان العربية والاسلامية. وهذا وذاك من الامور الجوهرية التي فرضت عليها تحديد خياراتها علي صعيد سياساتها الخارجية وكان أبرزها خيار الاندماج والتكامل الاقليمي, وهو الخيار المطروح بقوة وتؤيده الأغلبية الشعبية التركية بل تغلبه علي الخيارين الآخرين المتمثلين في ضرورة الذهاب الي آخر مدي في رحله الانضمام الي الاتحاد الاوروبي والتعاون الاستراتيجي مع أمريكا واسرائيل. وبقراءة متأنية لمحددات السياسة الخارجية لتركيا يمكن الذهاب بسهولة الي الأسباب الحقيقية في أن تكون القاهرة هي المقصد الأول للرئيس جول من بين العواصم العربية سيما إذا أدركنا وفقا لما ذكره الباحث أحمد السمان في مقال له بمختارات اسرائيلية الصادره من مركز الدراسات بالأهرام تحت عنوان مستقبل العلاقات العربية التركية بين المحدد الاسرائيلي والاتحاد الأوروبي أن مصر لعبت دور صمام الأمان في العلاقات العربية التركية وهي المؤهلة للعب الدور الأكبر في دعم هذه العلاقات ولا تنسي الإدارة التركية بل والشعب التركي اضطلاع مصر بدور فاعل عندما اضطلعت بدور الوسيط في أزمة اكتوبر1998 بين سوريا وتركيا والتي كادت تؤدي الي نشوب حرب بينهما حينما قام الرئيس حسني مبارك بجولات مكوكية بين دمشقوأنقرة ونجاحه الباهر في وضع أسس وقواعد مصالحه مستمرة ودائمة بين الجانبين وفتحت صفحة جديدة في العلاقات العربية التركية تحتاج الأن الي دفعة خاصة لا تستطيع الاقدام عليها سوي مصر وهو الأمر الذي تدركه تركيا جيدا وربما يكون أحد الأسباب الرئيسية في اختيار الرئيس التركي لأن تكون القاهرة مقصده الأول من بين العواصم العربية. وبطبيعة الحال تضعنا أجندة وجدول أعمال زيارة جول للقاهرة أمام ضرورة ملحة وهي أن نعرج علي طبيعة العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا التي شهدت في الفترة الأخيرة تطورا غير مسبوق بعد أن بلغ حجم التجارة البينية ما يقارب1.5 مليار دولار حاليا ومرشح للوصول الي خمسة مليارات في ثلاثة أعوام الي جانب تدفق الاستثمارات التركية الي مصر مما حدا بإلادارة المصرية الي تخصيص منطقة صناعية بمدينة السادس من اكتوبر علي مساحة تزيد علي مليون متر مربع للصناعات التركية المختلفة بغرض التصدير خاصة استثمارات النسيج. إلا أن الزيارة تكتسب أهمية أخري تتمثل في دفع العلاقات الثقافية بين البلدين وهو ما يظهر جليا حينما يقوم الرئيس جول بزيارة الي مكتبة الاسكندرية في ختام زيارته لمصر.