«التسييس» آفة مرضية خطيرة، طالت المساجد، بيوت الله تعالى، على أيدي خطباء ودعاة الإسلام السياسي ومن تحالف معهم من الخطباء والمشايخ الذين يستغلون منابر بيوت الله تعالى في غير أهدافها ووظائفها الشرعية المشروعة. ومما يؤسف له أن ظاهرة «تسييس المنابر» استفحلت وانتشرت في كافة الدول العربية، لكن على درجات متفاوتة، تبعاً لهيمنة ونفوذ قوى الإسلام السياسي على المجتمع ومؤسسات الدولة وبخاصة المؤسسات الدينية المسؤولة عن الرقابة والإشراف على بيوت الله تعالى. ويرجع البعض تصاعد هذه الظاهرة إلى إفرازات ما سمي بثورات «الربيع العربي» التي ساهمت في إيصال قوى الإسلام السياسي إلى سدة الحكم والسلطة، وكان من مصلحة هذه القوى توظيف المنابر الدينية في الدعاية الانتخابية قبل الوصول إلى السلطة، والترويج لطروحاتها السياسية عبر دعاتها وخطبائها، وبخاصة خطيب يوم الجمعة، وذلك بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة، بمعنى أن تيارات الإسلام السياسي ترى أن من مصلحتها السياسية استباحة منابر بيوت الله تعالى في بث طروحاتها السياسية والأيديولوجية، مثلها مثل «منابر التعليم» و«المنابر الإعلامية» وكافة منابر التوجيه والتثقيف. لذلك نجد أن فقهاء ومشايخ الإسلام السياسي في كافة الدول العربية، يتصدون ويهاجمون الجهات الدينية المسؤولة عن المساجد، عندما تصدر تعليمات بحظر استخدام المساجد في الأمور السياسية. ومؤخراً، ذكرت وكالات الأنباء أن أئمة «الإخوان» في الكويت، انتفضوا على وزارة الأوقاف، رافضين تنفيذ طلب الوزارة تسجيل خطب الجمعة، في تحد لقرار وزير الأوقاف شريدة المعوشرجي إثر قيام أحد الخطباء المتعاطفين مع «إخوان» مصر بإلقاء خطبة جمعة مسيئة للعلاقات الكويتية المصرية. صحيح أنه تم إيقاف ذلك الخطيب بسبب تجاوزه «ميثاق المسجد». وكذلك في الرياض تم توقيف إمام سعودي دعا في خطبة الجمعة على بشار والسيسي. إلا أن ظاهرة «اختطاف المنابر» و«استباحة المساجد» للأهواء السياسية والأغراض الحزبية وتشويه الخصوم وتفسيقهم وتكفيرهم والدعاء عليهم، لم تتوقف حتى الآن! ظاهرة إقحام بيوت الله تعالى في الخلافات السياسية والمذهبية، ليست وليدة العصر الحديث، بل لها جذور ممتدة في التاريخ الإسلامي إلى العصر الأموي مروراً بالعباسي والفاطمي والعثماني، حيث كان الخطباء ملزمين بلعن من لا ترضى عنهم السلطة الحاكمة، لكن الظاهرة استفحلت واستشرت عقب حركات «الربيع العربي» بوصول الإسلاميين إلى السلطة واستثمارهم الانتهازي لمنابر بيوت الله تعالى في نشر طروحاتهم السياسية والمذهبية، ومهاجمة خصومهم السياسيين واتهامهم بالعلمانية والردة لتشويه سمعتهم في أعين الرأي العام المجتمعي. ينبغي أن نذكر أن الجهات الدينية المعنية بالرقابة والإشراف على المساجد وصيانتها عن العبث السياسي واللغو الحزبي والمذهبي، تبذل قصارى جهودها في ملاحقة هؤلاء المتجاوزين المستبيحين لحرمة وقدسية بيوت الله تعالى، وهي لا تألوا جهداً في محاسبتهم وإيقافهم عن الخطابة، لكنها في النهاية لا تستطيع منع من سوّلت له نفسه من الخطباء الأيديولوجيين من تجاوز ميثاق المسجد، كما لا تستطيع إحكام الرقابة على كافة المساجد والمصليات والزوايا، والتي قد تصل إلى الآلاف في بعض الدول العربية، كما أن تيارات الإسلام السياسي في بعض المجتمعات من القوة والنفوذ ما يجعل رقابة الوزارات المسؤولة غير فاعلة، وبخاصة إذا وجد قطاع مجتمعي واسع متعاطف مع الإسلام السياسي ولا يرى في استغلال المنابر سياسياً أي مانع. بل إن هناك من رواد المساجد من أدمن الذهاب إلى مساجد معينة لأن خطباءها يصولون ويجولون في ميادين السياسة والاجتماع بغير حساب! هؤلاء يدافعون عن الخطباء المسيسين ويعجبون بهم ويرقصون طرباً في نفوسهم وهم يرون خطيبهم المفوّه، يحرض ويشرق ويغرب ويتدخل في شؤون الدول الأخرى ويهدد ويتوعد ويزبد، ولولا حرمة المسجد لصفقوا لخطيبهم وتعالت هتافاتهم تأييداً له. هؤلاء مرضى الخطب الحماسية، يجادلون بالباطل، إذ يستبيحون حرمة المساجد، ويهاجموننا لأننا نريد صيانة المساجد من لغوهم وعبثهم، لقوله تعالى «وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً. سينبري هؤلاء ويسارعون إلى اتهامنا بأننا نردد مقولات «علمانية»، مثل لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، وسيحتجون بقولهم إن الإسلام لا يفصل بين السياسة والدين كالمسيحية، وإنه يقول من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، وبأننا نريد شلّ دور المسجد في تناول القضايا العامة وقصره على أمور الطهارة والعبادة... إلخ. لكن هذه كلها مقولات زائفة ومضللة يخدع بها فقهاء الإسلام السياسي الجماهير لاستمرار استباحتهم قدسية بيوت الله تعالى، فنحن من المؤمنين يقيناً بأن الإسلام لا ينفصل بتوجيهاته وتعاليمه ومبادئه عن حياة الناس وأن له كلمة بل كلمات فيما يتعلق بتدبير شؤون المجتمع والدولة، ونحن مع الدور الحيوي للمسجد في قضايا المجتمع وفي رفع وعي الناس بشؤون مجتمعاتهم، ونحن مع الخطيب الذي يتناول قضايا السياسة بالمعنى العام والواسع الذي فيه إصلاح ذات البين والدعوة إلى الكلمة الجامعة وبث التسامح والمحبة والسلام والوحدة الوطنية الجامعة... نحن مع كل هذا وأكثر، لكن شتان ما بين الخطيب الملتزم بتوجيهات الإسلام السامية فيما يصلح المسلمين وبين هؤلاء الخطباء الحزبيين الذين يحرضون ويتهمون ويفرقون ويعمقون الطائفية والحزبية ويحاربون الوحدة الوطنية ويريدون إرسال أبنائنا إلى ميادين الهلاك بينما هم وأولادهم ينعمون. نحن نؤمن يقيناً أن الإسلام لا ينفصل عن حركة المجتمع السياسية والاجتماعية ومن لا يهتم بأمور المجتمع فلا يصلح خطيباً داعياً ومؤثراً... هذه مسلّمات، لكن ممارسات دعاة الإسلام السياسي في نقلهم الصراعات السياسية والمعارك الانتخابية والخلافات المذهبية من الشوارع إلى المساجد، هي أبعد ما تكون عن تعاليم الدين بل هي جناية على الدين والمسجد، جناية تأباها كل المواريث الثقافية والأخلاقية التي نعتز بها. نقلا عن صحيفة الاتحاد