يبلغ عدد سكان النمسا أكثر من ثمانية ملايين نسمة يشكل المسلمون فيها أكثر من4%. وتعتبر العاصمة فيينا واحدة من أجمل مدن العالم ويقصدها مئات الألاف من السياح سنويا للاستمتاع بجوها الجميل وخضرتها ومناظرها الطبيعية الخلابة من حدائق واسعة وقصور وكنائس تاريخية وشوارع نظيفة وبيوت تملأ شرفاتها الزهور من كافة الألوان, فضلا عن دور الأوبرا والمسارح الشهيرة وفرق الموسيقي التي تعزف علي الدوام في شوارعها. وهناك أيضا مدينة سالزبورج السياحية العظيمة التي يحج اليها مئات الألاف من جميع أنحاء العالم للاستمتاع بسحرها التاريخي والطبيعي بين الجبال التي تكسوها الخضرة صيفا والجليد شتاء مما يوفر فرصة فريدة لرياضة التزحلق علي الجليد في الشتاء واقامة الحفلات الموسيقية ومهرجانات الأفراح الجماعية في الصيف في شوارعها التي تحفها المباني والقلاع التاريخية. وبسبب موقعها الجغرافي الهام في قلب أوربا خاضت النمسا الكثير من الحروب دفاعا عن نفسها وتحولت ذات يوم من مجرد اقليم علي الحدود الي امبراطورية مترامية الاطراف هي امبراطورية النمسا والمجر تحت قيادة أسرة هابسبورج قبل ان تتحالف عليها القوي المعادية وتؤدي الي تفككها مرة اخري. ويقوم الاقتصاد النمساوي بصفة أساسية علي صناعة الحديد والصلب وتكرير البترول واستخراج المعادن والسلع الكهربائية والهندسية والنسيج والورق والسيارات والصناعات الالكترونية والألات الزراعية والخدمات السياحية والطباعة وكلها تدر عائدا كبيرا علي خزينة الدولة. كما تعتبر النمسا قلعة من قلاع الفن والموسيقي في العالم ومركزا علميا واكاديميا هاما يلجأ اليه الألاف من كل أنحاء العالم لتلقي العلم والدراسات العليا, كما تعد نسبة حاملي شهادة الدكتوراه بين النمساويين من أعلي النسب في العالم ان لم تكن أعلاها علي الاطلاق. كما تعتبر فيينا المقر الثالث لمنظمة الاممالمتحدة فضلا عن أنها مقر للوكالة الدولية للطاقة الذرية ومنظمة الاممالمتحدة للتنمية الصناعية( اليونيدو) بالاضافة الي منظمة الامن والتعاون الاوربي ومنظمة الدول المصدرة للبترول أوبك. وتحتفل النمسا هذه الأيام بعيدها القومي الذي يوافق السادس والعشرين من شهر أكتوبر, وهو تاريخ لاينساه النمساويون لأنه في مثل هذا اليوم من عام1955 رحل آخر جندي أجنبي عن البلاد. ولم يكن أحد أنذاك يدرك ان تلك الأطلال التي تناثرت هنا وهناك لتجسد وحشية النازي سوف يعاد تشكيلها من جديد لتكشف عن مدي اصرار شعب النمسا العظيم. وعلي الرغم من أن شعب النمسا شعب حالم بطبيعته واختار الموسيقي لغة لحياته اليومية الا أن ذلك لم يمنعه من أن يعيد بناء بلاده مرة اخري بعد ان دهمتها دبابات النازي في الحرب العالمية الثانية ودكت مبانيها مدافع القوات الأجنبية خلال أقل من عدة أشهر لاتتجاوز العشرة قبل أن يخرج أخر جندي أجنبي من أراضيها. فقد بدأ النمساويون عزف لحن العمل والعطاء والبناء من جديد لتعود فيينا كما كانت بل وأفضل عاصمة للجمال الساحر والطبيعة الخلابة. وعلي مدي العقود الماضية لم يكف النمساويون عن مواصلة الجهد, ولم تكن النمسا وشعبها مغيبين عن تلك التطورات المتلاحقة علي صعيد دول العالم. واختار النمساويون التطور وملاحقة الأحداث منهجا لحياتهم اليومية فلم تكن الصورة جامدة لديهم, فيكفي ماعانوه من ويلات الحروب التي فرضت علي بلادهم دون أي ذنب اقترفوه سوي انهم يعيشون فوق أرض ساحرة خلابة تمثل محط أطماع الغير لطبيعتها وجمالها. كما ياتي الاحتفال هذا العام في ظل تغير في التركيبة الحكومية حيث أصبح مستشار البلاد( الدكتور ألفريد جوسينباور) من الحزب الاشتراكي الذي كان في صفوف المعارضة بعد حوالي ست سنوات من حكم حزب الشعب الحاكم الذي كان يتزعمه المستشار السابق فولفجانج شوسل, هذا بالاضافة الي أن رئيس الجمهورية هو أيضا من الحزب الاشتراكي. كما أن النمسا التي مضي علي عضويتها في الاتحاد الأوربي أكثر من اثني عشر عاما حتي الآن أثبتت جدارتها وفعالية دورها في هذه المنظومة الأوربية طيلة هذه الفترة من خلال عضويتها وكذلك رئاستها للاتحاد مرتين خلال تسع سنوات. وتشهد النمسا عملية اصلاحات لتتواكب مع الاتجاهات العالمية لذلك نجد ان الحزبين الكبيرين اللذين يشكلان التحالف الحكومي( الاشتراكي الديمقراطي والشعب المحافظ) يسعيان الي التقارب فيما بينهما من خلال اتباع سياسات يمكن من خلالها تحقيق مبادئهما وأهدافهما دون تغيير في الثوابت السياسية لكل منهما حفاظا علي مكاسب وحقوق كل من الطبقة العاملة من ناحية وأصحاب المشروعات والشركات من ناحية أخري وعدم المساس بالسياسة الاجتماعية التي تتبعها الدولة منذ أكثر من ثلاثين عاما من ناحية ثالثة. وللعلاقات المصرية النمساوية سمة تميزها عن غيرها من العلاقات الدبلوماسية التي تجمع بين دولتين وتفرضها قواعد وبروتوكولات العلاقات الدبلوماسية التي تجمع بين بلدين تتبادل كل منهما تمثيلا دبلوماسيا ويرفرف علم كل منهما علي سارية مبني سفارتيهما في عاصمتي البلدين في علاقات صداقة تضرب بجزورها في أعماق التاريخ ليصل الي منتصف القرن التاسع عشر عندما وضع المهندس النمساوي( لويس تجريللي) تصميما لشق قناة السويس, ذلك الشريان البحري الذي يربط الشرق والغرب عبر الأراضي المصرية, ليكشف عن تدفق علاقات الصداقة والأخوة التي تربط بين الشعبين. فالعلاقات المصرية النمساوية تمثل نموذجا للروابط الوثيقة والمثمرة بين دولتين, ففضلا عن التوافق الكبير في المواقف السياسية بين مصر والنمسا علي الساحة الدولية خاصة فيما يتعلق بالموقف في الشرق الأوسط فان هناك علاقات اقتصادية وثقافية وفنية قوية بينهما. وكانت زيارة الرئيس محمد حسني مبارك الأخيرة لفيينا في شهر مارس من العام الماضي ثم زيارة الرئيس النمساوي الدكتور هاينز فيشر لمصر قبل أيام قليلة خير دليل علي هذه العلاقات الوثيقة والثقة المتبادلة بين الحكومتين المصرية والنمساوية والحرص المتبادل علي تطوير التعاون المصري النمساوي الي أقصي حد. ويشمل التعاون بين البلدين التبادل التجاري والفني في مجال الصناعة والزراعة والثقافة واقامة المشروعات المشتركة للاستفادة من الخبرات والامكانيات التي يتمتع بها كل طرف. ومما يوثق العلاقات أكثر بين مصر والنمسا وجود جالية مصرية كبيرة في النمسا يتولي بعضهم مراكز قيادية في مجالات التعليم والصناعة والتجارة, ويعمل الجميع في سبيل نهضة النمسا. والحقيقة أنه يمكن للتعاون والتنسيق السياسي بين البلدين أن يحققا الكثير في سبيل السلام والاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط والعالم ككل لما يتمتع به كل من البلدين من مؤهلات تفيد هذا الغرض. فمصر بموقعها في قلب الشرق الاوسط وقوتها البشرية وقيادتها المشهود لها عالميا بالكفاءة والحكمة لها تأثيرها الواضح علي مجريات الامور بالمنطقة سلما او حربا. وكما تنظر النمسا الي مصر باعتبارها دولة كبيرة في المنطقة العربية لها ريادتها في منطقة الشرق الأوسط ومكانتها المتميزة علي المستوي العالمي فان مصر لاتنسي النمسا وخاصة أن مستشارها الراحل برونوكرايسكي الذي لعب دورا بناء في دفع عملية السلام بين مصر واسرائيل في حقبة سبعينات القرن الماض, كما تذكر مصر للنمسا دورها المتوازن وسياستها المعتدلة تجاه مشكلات المنطقة العربية وازماتها المختلفة. فالنمسا تتمتع بموقعها المتميز في قلب أوربا و موقف الحياد الايجابي والقيادة الحكيمة الواعية وحسن علاقاتها مع جميع أطراف النزاع في منطقة الشرق الأوسط مما يمكنها من ان تقوم بدورها في تحقيق السلام ومن خلال عضويتها في الاتحاد الأوربي أيضا. لذلك فان العلاقات المصرية النمساوية مرشحة دائما للتقدم والتطوير والتعميق علي خلفية طبيعة العلاقة التاريخية والتقليدية بين الدولتين. وفي ختام تقريري هذا أرجو ان يسمح لي القارئ العزيز ان أتقدم بالاصالة عن نفسي ومؤسسة الأهرام واتحاد الاذاعة والتليفزيون التي أشرف بتمثيلهما لأكثر من ربع قرن أن أتقدم بالتهنئة للسيد الرئيس هاينز فيشر والمستشار ألفريد جوسينباور وأعضاء الحكومة والأحزاب السياسية والشعب النمساوي الكريم بعيده القومي.