قد يكون مفهوماً أن يعمد نظام دمشق الى ذر الرماد في العيون للتقليل من وطأة انكشاف ضلوعه بمؤامرة لاغتيال رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة ورئيس كتلة "المستقبل" النائب سعد الحريري، ولكن ما لا يمكن أن يكون مفهوماً هو مسارعة بعض حملة الجنسية اللبنانية ممن لا يعرفون شيئاً عن خلفية ما تمّ إعلانه من مقر رئاسة الجمهورية العربية المصرية الى التهجم على السنيورة والحريري لتبرئة آصف شوكت ورئيسه بشار الأسد من الجريمة الجديدة "الموثقة" التي أُضيفت الى سجلهما الأسود. وقد يكون مفهوما أن يعمد وكلاء الجنرالات الأربعة الموقوفين في سجن رومية الى المناداة، ليلاً ونهاراً، ببراءة موكليهم وبركاكة الأدلة المساقة ضدهم وبالمظلومية اللاحقة بهم، لكن ما لا يمكن أن يكون مفهوماً أن يُنصّب الأمين العام ل"حزب الله" السيد حسن نصرالله نفسه قاضي القضاة في لبنان مطالباً بإطلاق سراح جنرالات النظام الأمني اللبناني السوري، جازماً بأن الشهود هم شهود زور، وأن الإفادات هي إفادات مفبركة، وأن الإدعاء في جريمة إرهابية هو توقيف سياسي بلا توجيه أي تهمة. وقد يكون مفهوماً أن يتبنى أي حزب سياسي في لبنان ترشيح العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، ولكن ما لا يمكن أن يكون مفهوماً هو تمادي "حزب الله" في رفض إعلان موقف صريح وواضح من مسألة ترشيح عون ليعمد، في لحظة اطلاعه على إنجاز الترتيبات النهائية لاجتماع عون بالحريري الى تبني هذا الترشيح. وقد يكون مفهوماً أن يمتلك "حزب الله" وسائل إعلام مثله مثل كل التنظيمات السياسية في لبنان، ولكن ما لا يمكن أن يكون مفهوماً أن يفتح هذا الحزب وسائله أمام الشتّامين الرسميين من جهة وأمام الشتامين المخابراتيين على شبكة الإنترنت من جهة أخرى، ومهمتهم الترويج لما تبثه وسائل إعلام أجهزة المخابرات السورية من بذاءات، علّها تضفي عليها طابعاً من الجدية. وقد يكون مفهوماً أن يسعى أي طرف لبناني الى تحسين علاقات بلده بأي دولة أخرى، ولكن ما لا يمكن أن يكون مفهوماً أن يتغاضى عن الجرائم الإعلامية والأخلاقية والجنائية التي ترتكبها تلك الدولة بحق مواطنيه وقياداته. ولأن ما هو غير مفهوم بات أكثر من الهم على القلب، فإن الرضوخ لما يقوم به "غير المفهومين" بات مفهوماً. وما بات مفهوماً هو الوظيفة التي يطلبها هؤلاء من الطبقة السياسية اللبنانية بمناسبة الانتخابات الرئاسية، تحت طائلة "تدمير البلاد". هم يطلبون الآتي: أولاً، رئيس للجمهورية ومعه حكومة يقبلان بتنصيب السيد حسن نصرالله مرشداً للجمهورية اللبنانية، بحيث يُبرئ من يريد ويُجرم من يريد ويُنصّب من يريد ويخلع من يريد. ثانياً، رئيس للجمهورية ومعه حكومة يقبلان بجعل البلاد في خدمة سلاح "حزب الله" وارتباطاته الإقليمية التدميرية. ثالثاً، رئيس للجمهورية ومعه حكومة يقبلان بالرضوخ لمشيئة النظام السوري، بما فيها تلك الراغبة بتصفية من يُزعج مشروعه التسلطي في لبنان. ولأن هؤلاء، ويتقدمهم "حزب الله"، يعرفون أن قبول قوى الأكثرية بهذه الطروحات مستحيل فهم يكونون في وضعية من يعد العدّة لسوق البلاد الى مواجهة مفتوحة سماها فاروق الشرع بحرب خنادق. وبناء على هذا الوضوح في الرؤية، على اعتبار أن ألاعيب المحور السوري الإيراني في لبنان باتت أسطع من الشمس، يمكن للمراقبين أن يتفهموا جيداً ما تقوم به قوى الرابع عشر من آذار، فهي تُعبّر عن نهجها التسووي الطبيعي من خلال أداء سعد الحريري الانفتاحي، ولكنها لا تتجاهل حقها بمقاومة إعادة استعباد البلاد، الأمر الذي يعبّر عنه، وليد جنبلاط وسمير جعجع، كل على طريقته. ومن يدقق بأدبيات قوى الرابع عشر من آذار، بعيداً عن تذاكي من يعتقدون أنهم يملكون القدرة على تعكير المياه للصيد فيها، يتوقف عند مبدأ واحد جامع: لا لرئيس ينفذ إرادة دمشق وطهران في لبنان. سعد الحريري لا يفاوض إلا تحت سقف هذا الشعار، فلقاءاته المفتوحة بنبيه بري ظللها هذا المبدأ وكذلك لقاءاته الأخيرة بالعماد ميشال عون. وليد جنبلاط يضع الوصفة للوباء الأمني السوري، فالحل الجذري يحتاج الى خلاص سوريا من نظام بشار الأسد فيما الحل المرحلي يكون في توفير المظلة الدولية الواقية لقرار ربع الساعة الأخير المتمثل بانتخاب رئيس جديد للجمهورية بالنصف زائداً واحداً. وسمير جعجع لا يغوص كثيراً في المسألة النظامية السورية، بل يجد نفسه رابضاً على الحدود المانعة للعودة السورية الى لبنان من مدخل الرئاسة المارونية. وفي مطلق الأحوال، فإن قوى الرابع عشر من آذار لا تقارب الملف الرئاسي على أساس إدارة ملف خلافات سلطوية داخلية، بل على أساس منع النظام السوري من إعادة لبنان الى فلكه، فيما تصر القوى المنضوية في إطار المحور السوري الإيراني على اعتبار لبنان مجرد شيك يمكن تجييره الى حساب الصراعات السورية الإيرانية التوسعية. وبهذا المعنى، ليست قوى الرابع عشر من آذار من تعتبر حل الإشكالبات العالقة بين السعودية وسوريا هي المدخل الى انتخابات رئاسية طبيعية، كما أن هذه القوى ليست هي من تنادي ليل نهار بصفقة أميركية إيرانية، وتالياً فإن هذه القوى تطمح فعلاً الى وفاق سقفه لبنان ومصلحة لبنان ومستقبل لبنان. وهنا بالتحديد، يمكن فهم موقف قوى الرابع عشر من آذار تجاه نوعية الرئيس المناسب لجمهورية بحاجة الى تطهير من "ألغام" زمن الوصاية