مستمع اتصل قبل أيام بإحدى الإذاعات المحلية لبرنامج البث المباشر يشكو همه، والذي لم يكن سوى أنه يريد ويأمل أن يستمر في تقديم عمل خيري داخل مجتمعه، وأنه لا يجد اليوم من يرشده أو يعينه، قال خلال اتصاله:كنت في السابق أطبع بعض الكتيبات وأوزعها على الناس أبحث عن الأجر. أريد أن أساهم وأخدم أهلي وأذكرهم بالدين وعمل الخير، فماذا أفعل؟ شكوى هذا المستمع قد تحمل هموم شريحة ليست بالقليلة في هذا المجتمع، أنهم تعودوا على مبادرات مثل تلك التي ذكرها، وآمنوا أنها تقربهم إلى الله، يريدون أن يخدموا مجتمعهم، وينشروا فيه الكلمة الطيبة. في الماضي تعودوا أن يسمعوا الموعظة من "المطاوعة" تذكر الغافل منهم، وتزيده حماسة وترشده إلى ماذا يفعل، وكيف يتقي ربه أكثر ويخدم مجتمعه والإسلام عموماً. مثل تلك الجلسات والزيارات وحديث الذكر كانت تنشط فيها جماعة "الإصلاح" وغيرها، فكل شريحة عمرية لها فريق يشتغل عليها وأسلوب للوصل إليها وإقناعها واجتذابها، فالذي يخاطب "الشواب" في المساجد، غير الذي يلتقي الشباب في الجامعات والأندية، والذي يزور البيوت ويخلق علاقات أسرية ويستخدم الزوجة و"الأهل" في مشروعه، غير الشيخ الإعلامي الذي يعظ المجتمع من خلال التلفزيون. اليوم بعد أن تكشفت الحقائق، وأغلقت تلك النوافذ وبدأ المجتمع ينفر من حديث بقايا "الإخوان"، ما هو البديل؟ خاصة أن مجتمعاتنا الخليجية عموماً تعودت على وجود الداعية بينها، فهو وسيلة الإعلام الأقرب لها، والأكثر تصديقاً وتأثيراً عندها، فهذا يفقهها في الدين ويحمّسها ويذكر القلوب الغافلة ومتواجد بينها، ويمكنها الوصول إليه متى ما احتاجته. هل نقول له أن الخيار الآخر هو أن تتجه إلى الإعلام أو تمارس القراءة لتستنير أكثر، أو أن تستمع إلى خطيب المؤسسة الدينية فقط يوم الجمعة؟ وجود تلك التيارات ومشايخ إعلام القنوات الفضائية نتحمل جميعاً مسؤولية وجودهم ومنحهم أدوار القيادة والوصاية، مع أن مجتمعنا فيه من العلماء ورجال الدين الأفاضل الذين يحملون العلم الشرعي وعندهم المقدرة على الفتوى والخطابة ويملكون الوفاء والولاء لهذه الدولة وقيادتها. هذه الشخصيات التي قد تغير ما تم تشويهه، يمكنها أن تصلح وتقود، وتربي جيلاً على النهج الإسلامي القويم من غير تحزبات وأجندات ، لكن أين هي المؤسسة المعنية بالشؤون الإسلامية منهم، وأين قنواتنا الفضائية وإذاعاتنا وصحفنا عنهم. فكم مدرس يحمل درجة الأستاذية في الشريعة أو الفقه الإسلامي يدرس في جامعاتنا، كم معلم في مدارسنا يمتلك فن الخطابة ملماً بعلوم الدين . كثر أمثال هؤلاء ولكن هل نعرف عنهم شيئاً؟ نعرف عنهم أنهم لا يتقنون تسويق الذات، ولا يسعون للبحث عن مفاتيح وتزكيات، يعملون بصمت يؤدون أدوارهم في المجتمع بكل صدق وإخلاص. هل نستمر أكثر في استيراد مفتين ومشايخ من مختلف الدول، وأيضاً نفتح قنواتنا لكل مستورد يمكن أن يفيدنا إعلانياً، ونتجاهل العالم والمسلم الحقيقي. لو عدنا ندرس ظاهرة "الدعاة النجوم" لوجدنا أن قنواتنا الفضائية ساهمت بشكل مباشر في صناعة بعضهم، فهؤلاء لم تعرفهم المجتمعات إلا من خلال محطاتنا، وبعضهم للأسف لا يملك نجومية التلفزيون لا شكلاً ولا مضموناً ولا يملك أية مؤثرات فارقة، ولا يعرف أي عاقل متابع لماذا تحرص هذه القنوات على فرضه علينا. وهناك عناصر جاهزة لها جماهيريتها، وهؤلاء حقيقة حققوا لهذه القنوات مكاسب إعلانية ضخمة، واستطاعت أن تكسب من خلالهم نسبة مشاهدة واسعة، لكنها في المقابل أغدقت عليهم المزايا والعقود المفتوحة، فماذا يعني مثلًا أن يتسلم أحدهم راتباً شهرياً أكبر من راتب وزير عندنا لاطلالته مرة واحدة أسبوعياً، قد يكون هذا حقهم حسب عرف التعاقد مع الممثلين المشاهير وتسعيرة شراء البرامج، ولكن عندما يتنكر هؤلاء لهذه المجتمعات وهذه القنوات وقت المواجهة وتكشّف الأدوار، بل يحاربونها، ولا يذكرون لها جميلاً، ماذا نقول، ومن نلوم؟! سنعود نبحث عن الولاء، وعن ابن الوطن. لكن النجومية كما يفهمها صناع الإعلام تحتاج إلى زمن، وإلى مقومات وهي فن ومهارات وصناعة ، فلماذا لا تبادر المؤسسات المعنية لتقوم بدورها الأهم ، فكما نهتم في البحث عن المدير الجيد والموظف الكفء واللاعب الماهر ونجتهد في ذلك، لماذا لا نسعى بجد ونبحث عن العالم الذي يحرس عقول أهلنا. والخطيب الذي نأتمنه على أبنائنا يهديهم سبل الرشاد في الدين والدنيا، نقدم لهم المزايا كما نقدمها في أية مهنة لنستقطب الأفضل، نعطيهم الثقة في خدمة دينهم ووطنهم، ويتولى إعلامنا الذي جرب الاغتراب وشراء المعلب طويلاً، يجرب هذه المرة الاستثمار في صناعة الإنسان المواطن وتقديمه، فخير له ألف مرة من هذه القوالب أو ظاهرة المشايخ الجاهزة التي حاصرنا بها سنوات طويلة. هذا هو أعظم استثمار لأنه في الإنسان، وقد يكون من أكبر ما حققه لنا كشف حقيقة "الإخوان المسلمين" أنه فتح عقول مختلف المجتمعات العربية على أن لا يترك أمر الدين والفتوى وأعمال الإرشاد والأوقاف بأيادي هؤلاء، وإنها قد تعطينا الثقة أكثر في أهمية بناء شخصية العالم الصادق النزيه المخلص لدينه ووطنه. نقلا عن صحيفة الاتحاد