يعطي مشروع الدستور للرئيس سلطات تصنع ديكتاتورا استثنائيا، فهو يعين الحكومة ويقيلها، ويعين عشر أعضاء مجلس الشورى الذي يعطيه المشروع صلاحيات تشريعية، وهو رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة (المادة 146) ومجلس الدفاع الوطني، ومجلس الأمن القومي الذي لا يضم رئيس أركان الجيش وهو القائد الفعلي للجيش (المادة 193)، وهو عبث وإهانة للمؤسسة العسكرية التي تظل دائما المؤسسة الحافظة للذاكرة الوطنية مع الشعب. كما أنه رئيس المجلس الأعلى للشرطة (المادة 199)، بما يعني تبعيتها له وعملها في خدمته وليس في خدمة الشعب، وهو تكرار لنظام مبارك الاستبدادي. كما أنه يعين رؤساء الأجهزة الرقابية (المادة 202) التي من المفترض أن تراقب التصرفات المالية له ولحكومته ولكل أجهزة ومؤسسات الدولة، بما يجعلها أجهزة تابعة له وهو وضع يشل هذه الأجهزة ويؤسس للمزيد من تفشي الفساد. كما يعين النائب العام (المادة 173)، وقضاة المحكمة الدستورية العليا (المادة 176) مما يؤسس للمزيد من تغول السلطة التنفيذية على السلطة القضائية لسحق استقلالها. كما أن الرئيس يستطيع شل مجلس النواب (الشعب) فلا يمرر أي قانون إلا إذا حصل على أغلبية الثلثين (المادة 104). كما يمكنه دعوة الناخبين للاستفتاء حول أي قضية مهمة (المادة 150)، وهي مادة تتيح لأي رئيس الاستفتاء حتى على تعديل حدود الوطن، وهذه المادة يجب إلغاؤها كليا. كما أن الرئيس يعلن الطوارئ بعد التشاور مع رئيس الحكومة الذي عينه (المادة 148) وكان المفروض أن يكون هذا الحق حصريا لمجلس النواب لأن مصر عانت كثيرا من فرض الطوارئ بلا مبرر. أما أم الكوارث فهي إعطاء الرئيس حقا مطلقا لتعيين الموظفين المدنيين والعسكريين (المادة 147)، وهو اغتصاب مروع لسلطة أجهزة الدولة ولضوابط القوانين واللوائح المنظمة للتعيين، ويعني عمليا أنه يمكنه زرع كل أعضاء جماعة الإخوان المسلمين غير القانونية وأعضاء حزبه والمتحالفين معه في كل أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، بصورة تسحق الدولة الحديثة ومؤسساتها المدنية والعسكرية التي دفع الشعب المصري الغالي والنفيس والدماء لبنائها عبر قرنين من الزمان. وفيما يتعلق بالمواد الاقتصادية والاجتماعية، فإن هذا المشروع "الدستوري" (المادة 14) يكرس استمرار الاقتصاد العشوائي فاقد الهوية الذي لا يوجد فيه دور للدولة في التنمية الاقتصادية والاستثمار المباشر الصناعي والزراعي والخدمي، وخلق الوظائف، وحماية حقوق المواطنين في العمل والسكن وفي مكافحة الغلاء، وهي مادة أقرب للديباجة أو الكلام المرسل. لذا فإن المواد 67,63 الخاصة بحق العمل والسكن، هي مجرد كلام مرسل. كما أن المادة (14) تكرس فساد نظام الأجور فلا تنص على تحريك الحد الأدنى للأجر بنفس نسبة ارتفاع الأسعار حتى لا تتآكل قدرته الشرائية، كما أنها تفتح الباب أمام الاستثناءات من الحد الأقصى للأجر، وهو ما يعني عمليا إعطاء أهل الحظوة رواتب أسطورية بينما تعاني الغالبية الساحقة من موظفي الدولة وقطاعات كبيرة من العاملين عموما من تدني الرواتب أو حتى الفقر. كما تطالب بربط الأجر بالإنتاج، رغم أن إنتاجية العامل تتحدد بالأساس من خلال حداثة الآلات، ونوع الصناعة ومدى كثافة العمالة أو الآلات فيها، وكفاءة النظام الإداري الذي يعمل في ظله. وهذا المشروع الدستوري يكرس من خلال المواد (15) و(16) و(19) و(20) و(24) و(66) و(236)، استمرار سحق مصالح الفلاحين بفتح تمليك غير المصريين للأرض الزراعية وعدم وضع حد أقصى للملكية وهو إجراء رأسمالي بالمناسبة، بما يكرس إعطاء آلاف وعشرات الآلاف من الأفدنة لغير المصريين، وترك ملايين الفلاحين المعدمين وخريجي التعليم الزراعي بلا أرض. كما استمر سحق مصالح الصيادين بعدم وجود أي نص يحمي حقوقهم العادلة في الصيد في النيل وفروعه والبحيرات والسواحل. كما أن عدم وجود أي نص على تجريم تلويث النيل الذي يدمر الثروة السمكية ويلوثها ويهدد أرزاق الصيادين وصحة المصريين جميعا. كما تم العصف بنسبة ال50% للعمال والفلاحين في مجلس النواب، حيث ستبقى لدورة واحدة ثم تلغى نهائيا، وتعريف العامل هو من يعمل بأجر، وهو تصنيف يضم الوزراء وأساتذة الجامعات (المادة 236) وهو عبث وهزل. وكان يمكن تخفيض النسبة ووضع معايير تضمن أن العمال والفلا حين فقط هم من يدخلون في هذا التصنيف. كما أن مشروع الدستور لا يضع أساسا لإصلاح نظام التعليم أو الاستجابة لمطالب المعلمين وكل العاملين في قطاع التعليم، بل يعطي كلاما مرسلا أو ديباجة في المادة 58 الخاصة بالتعليم ولا ينص على تخصيص نسبة من الإنفاق العام على التعليم بصورة متوافقة مع المتوسط العالمي أو الإقليمي للإنفاق على هذا القطاع. أما المواد 10 و11و219 فإنها تؤسس لتدخل الدولة في دين المواطنين، وتؤسس لتشكيل جماعات الغوغاء المسماة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" التي تغتصب سلطة الدولة ودور جهاز الشرطة وتعتدي على حريات المواطنين، ومن الصعب توقع تدفق استثمارات محلية أو أجنبية محركة للنمو والتشغيل في ظلها. ويكرس مشروع الدستور استمرار منطق إهدار وإساءة استغلال الثروات المعدنية والمحجرية، ويؤكد عدم الجدية في حماية الآثار والمحميات والشواطئ والبحيرات، بالمادة (18)، التي هي عبارة عن كلام مرسل. كذلك فإن هذا المشروع الدستوري يؤسس لاستمرار سياسة النظام السابق في نهب أموال التأمينات وسحق حقوق أرباب المعاشات، فلا ينص في المادة 66 على أن أموال التأمينات أموال خاصة مملوكة للمؤمن عليهم تدار من خلال مجلس أمناء، ولا ينص على إعادة الحقوق المسلوبة لأصحاب المعاشات والتأمينات. كما أن هذا المشروع يعيد في المادة (48) سياسة تكميم الصحافة وتقييد دروها في كشف الفساد من خلال إعادة المادة التي تبيح وقف أو إغلاق أو مصادرة الصحف بعد أن تم إسقاط تلك المادة في عصر مبارك نفسه. كما أن هذا المشروع يؤسس لإرهاب المجتمع بوضعه الجمعيات والمؤسسات الأهلية والأحزاب والنقابات تحت إرهاب الحل (المواد 51 و52 و53)، رغم أن المتعارف عليه هو إمكانية حل مجالس الإدارات بأحكام قضائية، ولكن ليس الأحزاب أو النقابات أو الجمعيات الأهلية نفسها. كما أنه يصادر حرية تشكيل النقابات والاتحادات بمنع وجود أكثر من نقابة للمهنة الواحدة وهو تهديد صريح بحل النقابات المستقلة. ويقدم مشروع الدستور الأساس لإلغاء مجانية الرعاية الصحية إلا لمن يقدم شهادة فقر مذلة، ويتجاهل حقوق الأطباء والعاملين بالقطاع الصحي، وكان من الضروري النص على تخصيص نسبة من الإنفاق العام على الصحة متوافقة مع متطلبات منظمة الصحة العالمية. كما أن مشروع الدستور يهدر حقوق ذوي الإعاقة في المادة 72، وكان ينبغي إلزام الحكومة وقطاعها العام وهيئاتها الاقتصادية وشركات القطاع الخاص بنسبة محددة من فرص العمل لهم، ووضع عقوبات بالقانون على الشركات التي لا تلتزم بها. نقلا عن جريدة الأهرام