لم يكن أحد يتصور ان يجد المصريون انفسهم بين خيارين لا ثالث لهما هما الفوضى أو الفساد.. حين ثار الشعب المصري على النظام السابق خاض معركة دامية لكي يستعيد كرامته وحقه في حياة كريمة.. واستطاع ان يسقط رأس الفساد وإن بقيت أعمدة النظام ومؤسساته.. ولم يكن أحد يتصور ان تصبح الفوضى بديلا للفساد.. خاض المصريون معارك ضارية طوال العامين الماضيين.. كانت هناك معركة ضد الفلول التي لم يعرف لها أحد مكانا وكانت تخرج في أوقات غريبة واستطاعت ان تترك بصماتها على حياة الناس ما بين أعمال التخريب والمظاهرات واللهو الخفي وإن تركت بصمات أعمق على الشارع السياسي.. في الجانب الآخر كان الصراع بين القوى السياسية هو أبرز وأسوأ ما ظهر بعد سقوط النظام السابق.. سرعان ما انقسم الشارع وبدأت رحلة البحث عن الغنائم وكانت البداية مع الاستفتاء ثم كانت انتخابات مجلسي الشعب والشورى ثم كان الصراع الرئاسي وفي كل مرحلة من هذه المراحل كانت هوة الانقسامات تزداد اتساعا حتى وصلت إلى صدام حاد بين القوى السياسية. كان من الممكن ان يتحول الصدام إلى خلاف سياسي في الرؤى والأفكار والمواقف وان يتخذ من الحوار وسيلة لذلك كله.. ولكن مع الوقت وسوء النوايا والمطامع تحول الصدام إلى مواجهة وتحولت المواجهة إلى معارك استخدمت فيها اطراف اللعبة السياسية كل مالديها من اسلحة الدمار الشامل.. وكان من الممكن ايضا ان تدور المعارك بين ابناء النخبة باختلاف توجهاتهم الفكرية بحيث لا يصبح الشارع والجماهير طرفا فيها.. ولكن للأسف الشديد ان المعركة استخدمت أساليب غريبة وجديدة علينا كان في مقدمتها الدين.. في مراحل مضت كان استخدام الدين فيه قليل من الحكمة بحيث تحول إلى منطقة جذب في الانتخابات البرلمانية وربما أخذ مساحة واضحة في الاستفتاء الأول.. وامام غياب الوعي والرؤى وجدنا الدين يظهر مرة واحدة في المعادلة السياسية في مصر في صورة اجتياح جماهيري افتقد في بعض الأحيان الكثير من الحكمة والتعقل.. كانت المليونيات أجمل ما ظهر في ثورة يناير ولكنها مع التحول الشديد وعمليات الاستقطاب في الشارع المصري تحولت إلى لعنة لا أحد يعرف حتى الآن إلى أين تحملنا خاصة بعد ان قسمت المجتمع المصري وشطرته إلى نصفين لا يمثلان الحقيقة نصف في يده السلطة يرفع راية الإسلام ونصف آخر يأخذ موقف المعارضة يرفع راية الوطن.. وكان من الخطأ الشديد ان تتعارض في بلد واحد وشعب واحد قيم العقيدة والمواطنة خاصة ان مصر قامت طوال تاريخها على احترام الأديان وتقديس مفهوم الوطن ومعنى المواطنة. وانعكست هذه الرؤى القاصرة على مواقف الكتل السياسية في الشارع المصري وكان النموذج الأوضح لهذه الخلافات التي وصلت إلى درجة الصدام ما حدث في قضية إعداد الدستور وما حدث في الإعلان الدستوري الأخير وما أحاط به من ملابسات ورفض.. كان الخلاف الأساسي منذ البداية حول تشكيل جمعية إعداد الدستور وانتقل إلى أعضائها ثم انتقل إلى نصوص الدستور ومحاولات فرض وجهة نظر واحدة على كل ما جاء فيه.. ثم جاءت معركة الإعلان الدستوري وكان من الممكن ان يتسع صدر الجميع السلطة والمعارضة لحوار جاد حول ما جاء في الإعلان ولكن السلطة دخلت دائرة العناد والمعارضة أصرت على الرفض وحتى هذه اللحظة كانت إمكانيات التفاهم ممكنة، ولكن الذي حدث ان كرة النار القيت في الشارع من الطرفين دون أي اعتبار لخطورة ما حدث. فجأة وبلا مقدمات وجد المصريون جميع مؤسسات الدولة وقد تناثرت في الشارع وأصبح القرار في يد جماهير غاضبة تحركها مشاعر متناقضة وهنا كانت الجريمة الأكبر في هذا الحشد الجماهيري والذي قسم المصريين إلى فريقين تحت مسميات كثيرة ما بين الإخوان والسلفيين في جانب والليبراليين في جانب آخر، وتسلل الدين مرة أخرى لنجد فريقا يدعي أنه يحمي حمى الإسلام ويطالب بالشريعة ويتهم معارضيه بأنهم ضد الإسلام وضد تطبيق الشريعة.. وأمام مجتمع نصفه لا يقرأ ولا يكتب، وامام ملايين لا تجد طعاما ولا سكنا كان من الخطأ الشديد إشعال الفتن بين أبناء الوطن الواحد بهذه الصورة الهزلية وتقسيم المواطنين بهذه الصورة الفجة. كان من الممكن ان يبقي الخلاف والصدام بين الفريقين المتصارعين في دائرة الحوار ما بين سلطة القرار والمعارضة، ولكن الجميع لجأ للشارع يطلب العون والمساندة ويستعرض المزيد من القوة.. في تقديري ان مليونيات الثورة تختلف كثيرا عن مليونيات الصراع والانقسام التي نراها الآن، كانت مليونيات الثورة تأكيد الوحدة شعب وكانت مليونيات الصراع تأكيد للفتنة الكبرى وشتان بين شعب وحدته ثورة وفرقته المطامع. هنا جاء دور الاستعراضات الجماهيرية بين القوى السياسية وكل منها يعرف مناطق ضعفه وقوته وقد ظهرت في الشارع المصري في الأيام الأخيرة مخلفات العهد البائد حيث سيطرت مرة أخرى على المشهد السياسي لغة الضغط بالحشود الجماهيرية وإقصاء الرأي الآخر، والإصرار على الخطأ وهنا كاد المشهد يصل إلى درجة الصدام الدامي ما بين ميدان التحرير وميدان عابدين.. ومابين جامعة القاهرة وحشود أخرى وما حدث بين الفريقين في سيدي جابر وميدان إبراهيم باشا في الإسكندرية وما شاهدناه في دمنهور والمحلة.. كل هذه المشاهد كانت تؤكد اننا نقترب كثيرا من حالة انفلات أمني قد تعجز مؤسسات الدولة عن مواجهتها رغم انها منذ البداية كانت تحتاج إلى حوار وتبادل وجهات النظر وان الحريق الذي يمكن ان يشتعل في أية لحظة يمكن ان نطفئه من البداية.. اقول.. إن أخطر ما يواجه مصر الأن ان يحكمنا الشارع وتفقد مؤسسات الدولة سيطرتها في لحظة ما أمام هذه الحشود.. إن هذا يذكرنا بشخص اشترى اسدا صغيرا وقام بتربيته في بيته ينام إلى جواره ويلعب مع أطفاله ونسى ان الأسد يكبر ويتغير وتظهر فيه علامات أخرى وذات يوم جاع الأسد ولم يجد أمامه غير أحد الأطفال فانقض عليه وأكله.. هذه الحشود التي جاءت من أعماق الريف تحملها اللوريات والسيارات وتم تلقينها بعض الشعارات الدينية وشاهدت المشايخ الذين تراهم على الشاشات يمكن ان ترفض في لحظة ما كل هذه المشاهد.. انها تؤمن بدينها ولكن حين تجوع سيكون الدين رغيف الخبز والعدالة وليس خطب المشايخ وصراخ الحواريين، هذه الحشود صبرت علينا الآن عامين كاملين وربما صبرت شهورا أخرى ولكنها سوف تقف في المصانع والشوارع والحقول بعد ان تفيق من سكرة الشعارات واحتفالات الدستور والإعلان الدستوري لتقول للمسئولين في حزب الحرية والعدالة والنور والإخوان والسلفيين ماذا فعلتم لنا في ظل حكومة تبحث عن موارد لتمويل الميزانية وتعاني نقصا شديدا في الإمكانات، وامام مطالب فئوية عاصفة واستخفاف دولي وعربي لتقديم الدعم الاقتصادي لمصر، وامام مجتمع تحول نصفه إلى مليونيات دينية والنصف الآخر إلى مليونيات ليبرالية سوف يقف فقراء هذا الشعب وسكان العشوائيات ويسألون المسئولين في مؤسسات الدولة ماذا فعلتم لنا؟!.. هنا فقط سوف يدرك الذين جمعوا هذه الحشود وجاءوا بها إلى القاهرة وأطلقوها في كل العواصم في الأقاليم ان الأسد لم يعد مستأنسا واليفا كما كان.. هذه هي المعادلة التي أخاف منها الآن ان النخبة المصرية الدينية والليبرالية تلعب بالنار وهي لا تدري لأن هذه الحشود لن تصبر كثيرا.. في العهد البائد كانت هذه الحشود تعاني كثيرا، ولكن كان هناك نظام مستبد يلقي بها في المعتقلات والسجون، وكان أحيانا يلقي لها بعض ما بقي على موائد اللصوص من الفتات، وفي أحيان كثيرة كانت هذه الحشود تعيش في غيبوبة جميلة من الوعود والشعارات والفن الهابط مع إدمان طويل للسذاجة والأمية وغياب الوعي.. ان ما حدث في ثورة يناير أيقظ هذا الشعب من ثبات عميق فلن يقبل حاكما مستبدا ولن يرضي ان يعيش على فتات يلقيه اللصوص ولم يعد فاقدا للوعي كما كان..وقبل هذا كله نحن امام أجيال جديدة من الشباب الثائر جربت طعم الحرية ولن تقبل الهوان مرة أخرى.. هذه الحشود المليونية هي التي نجحت بها الثورة ولكن للأسف الشديد انها يمكن ان تأخذ مسارا آخر وقد فعلت، وساعتها لن تسمع طلقات التحذير أو صرخات الرفض والاستنكار، انها الحشود التي ذهبت ودمرت في محمد محمود وحاصرت المحكمة الدستورية ومنعت القضاة من إصدار الأحكام وهي نفسها التي جاءت بالإخوان والسلفيين إلى السلطة ولكن حين تعجز السلطة عن مواجهة مشاكل هؤلاء الناس سوف تكون السلطة أولى ضحاياها.. فلا ينبغي ان نبالغ بتشجيع الحشود أو التنافس لجمعها تحت أي شعار لأنها قد تكون اليوم لنا..ولا أحد يعرف غدا ربما كانت علينا.. ولهذا لا يعقل ان تكون هذه هي نهاية الرواية أو ان نجد أنفسنا بين خيارين كلاهما مر..إما فساد نظام رحل.. أو فوضى نظام لا يستطيع حماية مواطنيه ويغرقهم في الانقسامات والفتن. لابد ان نعترف اننا امام صراع سياسي أبعد ما يكون عن الدين وقدسيته ولهذا ينبغي ان نضع ضوابط وحسابات للحشود الجماهيرية والمظاهرات الصاخبة التي يتم جمعها تحت شعارات دينية هي في حقيقتها دوافع سياسية حتى لا نجد أنفسنا يوما امام مطالب مستحيلة لهذه الحشود إذا كان البعض يستخدم الدين الآن كوسيلة ضغط على التيارات الأخرى فربما جاء الوقت ليجد الجميع أنفسهم امام دعاوي دينية تتجاوز كل الحسابات. ويبقى الشعر الطقس هذا العام ينبئني بأن شتاء أيامي طويل وبأن أحزان الصقيع.. تطارد الزمن الجميل وبأن موج البحر.. ضاق من التسكع.. والرحيل والنورس المكسور يهفو.. للشواطيء.. والنخيل قد تسألين الآن عن زمني وعنواني وما لاقيت في الوطن البخيل ما عاد لي زمن.. ولا بيت.. فكل شواطيء الأيام في عيني.. نيل كل المواسم عشتها.. قد تسألين: وما الدليل؟ جرح علي العينين أحمله وساما كلما عبرت علي قلبي حكايا القهر.. والسفه الطويل حب يفيض كموسم الأمطار.. شمس لا يفارقها الأصيل تعب يعلمني.. بأن العدو خلف الحلم.. يحيي النبض في القلب العليل سهر يعلمني.. بأن الدفء في قمم الجبال.. وليس في السفح الذليل قد كان أسوأ ما تعلمناه من زمن النخاسة.. أن نبيع الحلم.. بالثمن الهزيل أدركت من سفري.. وترحالي.. وفي عمري القليل أن الزهور تموت.. حين تطاول الأعشاب.. أشجار النخيل أن الخيول تموت حزنا.. حين يهرب من حناجرها الصهيل الطقس هذا العام ينبئني بأن النورس المكسور يمضي.. بين أعماق السحاب قد عاش خلف الشاطيء المهجور يلقيه السراب.. إلي السراب والآن جئت.. وفي يديك زمان خوف.. واغتراب أي الشواطيء في ربوعك.. سوف يحملني ؟ قلاع الأمن.. أم شبح الخراب ؟ أي البلاد سيحتويني.. موطن للعشق أم سجن.. وجلاد.. ومأساة اغتصاب ؟ أي المضاجع سوف يؤيني ؟ وهل سأنام كالأطفال في عينيك.. أم سأصير حقا مستباحا.. للكلاب ؟ أي العصور علي ربوعك سوف أغرس واحة للحب.. أم وطنا تمزقه الذئاب ؟ أي المشاهد سوف أكتب في روايتنا ؟ طقوس الحلم.. أم سيركا تطير علي ملاعبه الرقاب ؟ "قصيدة الطقس هذا العام سنة 2000" نقلا عن جريدة الأهرام