مع قرب انعقاد مؤتمر «السلام في الشرق الأوسط« بمدينة أنابوليس الأمريكية في منتصف نوفمبر المقبل، يكثر الجدل داخل إسرائيل بشأن طبيعة القضايا التي سوف يتناولها المؤتمر، وما إذا كان سيعرض لبعض القضايا الجوهرية كالقدس واللاجئين والحدود في إطار ما يسمى مفاوضات الوضع النهائي. وعلى ما يبدو، فإن مثل هذا الجدل مرتبط بصورة واضحة بما يتواتر من أنباء من مصادر إسرائيلية بشأن المحادثات التي تجرى حاليًا بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني من أجل صياغة البيان المشترك، الذي يتوقع أن يصدر عنهما في ذلك المؤتمر؛ حيث تؤكد هذه المصادر أنهما تناولا القضايا الجوهرية خلال هذه المحادثات. ويعد موضوع القدس بالتحديد أحد أهم وأبرز القضايا الجوهرية التي يدور بشأنها الجدل والنقاش حاليًا على نطاق واسع على المستويين السياسي الرسمي والحزبي داخل إسرائيل، حتى إنه بدا كما لو كان هناك اتجاه لحدوث تحول في الإجماع الإسرائيلي حيال هذه القضية الجوهرية مع وجود طروحات غير مسبوقة - بحسب البعض - تدعو إلى تقسيم المدينة بين الدولة العبرية والفلسطينيين. ولعل أهمية تلك الطروحات مرجعها أن غالبية الإسرائيليين، ومنذ قيام الدولة، ينظرون إلى المدينة باعتبارها عاصمة إسرائيل، وأنها غير قابلة للاقتسام مع العرب، ولا يمكن إخضاعها للتدويل.. ومن منطلق تلك النظرة المتعنتة انتهجت تل أبيب الأسلوب العدواني ومنطق القوة لفرض سيطرتها على كامل القدس بعد احتلالها الجزء الغربي منها عام 1948 وضمها الجزء الشرقي في عام 1967، ثم شرعت في تشييد العديد من المستعمرات اليهودية لطمس الهوية العربية للمدينة في انتهاك فاضح للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الصادرة منذ عام 1980 ومنها القرار رقم 478 الذي اعتبر قانون القدس الإسرائيلي لعام 1980، الذي أعلن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل غير قابلة للتقسيم - «باطلاً ولا حجية له«. وعلى الرغم من أن الطرح الحالي لفكرة تقسيم المدينة المقدسة يتناقض مع بعض الإجراءات التي اتخذتها حكومة «أولمرت« مؤخرًا من قبيل الإقدام على مصادرة ما يقرب من 300 فدان من أراضي الفلسطينيين بين القدسالشرقية ومستعمرة معاليه أدوميم، فإن مجرد طرح فكرة تقديم تنازلات في المدينة يعد من وجهة نظر البعض أمرًا يستحق الاهتمام؛ لأنه حرك مياهًا راكدة منذ عقود، وإن كان هناك عدم ثقة على نطاق واسع من جانب الفلسطينيين وغيرهم من المعنيين بقضية القدس في جدية الطرح الإسرائيلي بشأن التقسيم. ولو استعرضنا الجدل المثار بشأن تقديم تنازلات في القدس سنجد أنه في مقدمة المتحمسين لهذا الاتجاه أو الطرح نائب رئيس الوزراء «حاييم رامون« - عضو حزب كاديما - الذي اقترح التنازل عن ستة أحياء عربية في المدينة المقدسة لصالح السلطة الفلسطينية كجزء من اتفاقية سلام بين الطرفين. ومثل هذه التنازلات - التي يستثني منها «رامون« الأحياء في منطقة «الحوض المقدس« التي سيحدد وضعها في المستقبل - ستعود بالفائدة على إسرائيل؛ لأنها من وجهة نظره لن تكون ملزمة بدفع أي مخصصات تأمين لعشرات الآلاف من الفلسطينيين في المدينة، فضلاً عن أنها قد تحصل على اعتراف عربي ودولي بضم بعض مناطق في القدسالشرقية كمقابل لهذه التنازلات. ولقد شرح «رامون« موقفه في إطار ذلك الطرح بتفصيل أكبر في حديث للإذاعة الإسرائيلية، حين أوضح أن الأحياء اليهودية بالمدينة يجب أن تظل إسرائيلية بينما يجب نقل السيطرة على بعض الأحياء العربية - باستثناء ما يوجد في المدينة القديمة من مقدسات - إلى السلطة الفلسطينية، ووصف ذلك الإجراء بأنه سيكون الصفقة الصائبة للفلسطينيين وللعرب وللمجتمع الدولي في الوقت الحالي (تنازل فلسطيني عن الأحياء اليهودية مقابل تنازل إسرائيلي عن الأحياء العربية). ويكاد يتفق حليفا حزب كاديما في الائتلاف الحكومي حزب العمل وحزب إسرائيل بيتنا مع طرح «رامون« السابق، وإن اختلفا في تحديد الأحياء التي سيتم التخلي عنها، ف «أفيجدور ليبرمان«، يؤيد تسليم عدد من الأحياء العربية ومقايضة أراض وسكان مع السلطة الفلسطينية بما في ذلك مخيمات اللاجئين في القدس في مقابل الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، ومن وجهة نظر «ليبرمان« - المعروف بتطرفه- فإن اللجوء لهذا الإجراء لا يمكن وصفه بالتسوية أو التنازل، ولاسيما أن النزاع بين العرب واليهود لا يتعلق بالأراضي، وهو يعتقد أن كل تسوية مبنية على الأرض لا تجلب السلام ولا الأمن بل العكس هو الصحيح، فالتنازل عن الأراضي التي كانت تحتلها إسرائيل في لبنان وقطاع غزة لم يجلب لها سوى الإرهاب وصواريخ القسام؛ أي أن «ليبرمان« في النهاية يدعو إلى انسحاب جزئي من القدسالشرقية بما ينسجم مع مبدأ حزب إسرائيل بيتنا الذي يتزعمه الداعي للفصل التام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وفي مقابل تلك الطروحات التي تدعو إلى التخلي عن أحياء عربية في القدسالشرقية تتعالى في المقابل أصوات ترفض تمامًا مبدأ تقسيم المدينة الموحدة أو التنازل عن أحياء منها لصالح الفلسطينيين.. وهذا الرفض لم يقتصر فقط على المعارضة اليمينية، ولكنه امتد إلى أعضاء بارزين في الائتلاف الحكومي.. فالأخيرون مثل شاؤول موفاز عضو كاديما أعلن أن القدس لن تقسم، وأن اللاجئين لن يعودوا، بينما اليمينيون نددوا بمقترحات «ليبرمان«، واتهموه بالتخلي عن مبدأ عدم تقسيم القدس. ففي حين أكد «إيلي بشاي« زعيم حزب «شاس« أن القدس غير مطروحة للتفاوض فإن رئيس الوزراء الأسبق بنيامين نتنياهو - المعارض فطريًا لأي محاولة لفرض التسوية - لجأ إلى سياسة التخويف، حين تساءل عما إذا كان الإسرائيليون مستعدين لرؤية «حماس« وهي تسيطر على أحياء مدينة القدس.. وقد اعتبر ذلك الرفض وخصوصًا اليميني - بحسب واشنطن تايمز 9/10/2007- جزءًا من جهود المعارضة الإسرائيلية لإقناع الأعضاء المحافظين في ائتلاف أولمرت الحكومي بالانسحاب منه وإجبار الحكومة على إجراء انتخابات مبكرة. وتكاد تكشف استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي عن وجود حالة رفض يكاد يكون تاما لمبدأ تقسيم القدس ومن بين هذه الاستطلاعات ذلك الذي أجراه معهد داهاف وصحيفة «يديعوت أحرونوت«، وكشف عن أن أكثر من 63% من الإسرائيليين يعارضون أي تسوية تتناول القدس في إطار اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وأن أكثر من 68% عارضوا نقل الأحياء العربية إلى السيطرة الفلسطينية مقابل تأييد 20%، بينما ربط 11% موافقتهم بموافقة أكثرية الإسرائيليين في استفتاء عام.. وأيضًا كشف استطلاع الرأي عن أن 61% يؤيدون أن تكون السيادة على المدينة القديمة لإسرائيل مقابل 21% يؤيدون وضعها تحت السيادة الدولية، و16% تحت السيادة الإسرائيلية - الفلسطينية و1% تحت السيادة الأردنية. وفي الوقت الذي يحتدم فيه الجدل داخل المجتمع الإسرائيلي حول مسألة اقتسام مدينة القدس، فإن الفلسطينيين الذين يطالبون بأن تكون القدسالشرقية عاصمة لدولتهم المأمولة يرفضون أن تكون المدينة محلاً لسجال ومساومات من جانب الإسرائيليين، وتكشف ردود الفعل الصادرة عن بعض المسؤولين الفلسطينيين عن إدراك تام لحقيقة هذا الجدال وأهدافه ف «نبيل أبوردينة« مستشار الرئيس الفلسطيني انتقده ووصف الحقوق الفلسطينية بأنها لن تخضع لمفاوضات وسجال الأحزاب الإسرائيلية، بينما رفض «عدنان حسين« وزير شؤون القدس في السلطة، اقتراح «حاييم رامون« الخاص بالتنازل عن ستة أحياء عربية، ووصفه بأنه مجرد تنازل عن «شارع هنا وشارع هناك«.. موضحًا أن حدود القدس معروفة للجميع، فالقدسالشرقية للفلسطينيين والقدسالغربية للإسرائيليين.. ولهذا السبب تعد آمال «أولمرت« - الذي يؤمن بضرورة اتخاذ قرارات حتمية وتقديم تنازلات - وكذلك «حاييم رامون« في أن يصبح ذلك الاقتراح بمثابة أساس لاتفاق سلام نهائي آمالا غير واقعية وتتنافى مع قرارات الشرعية الدولية وتحديدًا القرار رقم 478 لعام 1980، وكذلك تتنافى مع الموقف الفلسطيني الثابت من قضية القدس. ويرى بعض المراقبين أنه من المحتمل أن يكون «أولمرت« و«رامون« قد أقدما على ذلك التلميح بتقديم تنازلات في القدس كرسالة تشجيعية للرئيس الفلسطيني «أبومازن« قبل اللقاء المشترك لمناقشة إعلان المبادئ الذي من المفترض أن يوجه المفاوضات المتعلقة بالقضايا الجوهرية، ولكن تبدو المشكلة بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي متمثلة في الموقف الحرج الذي تواجهه حكومته الضعيفة وسعيه قدر الإمكان لمنع انهيارها.. وهو ما يجعله غير قادر على أن يكون محددًا في اقتراحاته أو أن يكشف إلى أي مدى يمكن أن تصل تنازلاته في المدينة المقدسة. ومع ذلك، لفت محللون الانتباه إلى محاولة إسرائيل تنفيذ سيناريو تحاول من خلاله تقديم تنازلات محدودة تكون مقبولة سياسيًا في محاولة لتجنب التزاماتها الدولية والقانونية ومن أجل الحصول على اعتراف وقبول دوليين لقيامها بضم أجزاء في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة. وبصرف النظر عن مغزى وأهداف التلميحات الإسرائيلية حول القدس، التي لم تخرج حتى الآن عن نطاق الجدل، ولم تتبلور بشأنها فكَر أو خطة محددة.. ومع أن الرؤية لم تتضح فيما يخص وضع القضايا الجوهرية كالقدس واللاجئين وغيرهما خلال محادثات مؤتمر السلام المقبل.. فإن الذي يبدو واضحًا حتى الآن هو أن بحث هذه القضايا - التي تردد أنها نوقشت في المحادثات التمهيدية بين الإسرائيليين والفلسطينيين مؤخرًا - في المؤتمر مازال محل خلاف بين أركان الحكومة الإسرائيلية وتحديدًا بين «أولمرت« الذي يؤيد المطلب الفلسطيني ببحثها وبين وزيري الدفاع والخارجية «إيهود باراك« و«تسيبي ليفني« اللذين يعتقدان أن الوقت غير مناسب لبحث هذه القضايا. ومن ثم يمكن النظر إلى مسألة القدس وإمكانية تقديم تنازلات بشأنها للفلسطينيين على اعتبار أنها مجرد بالون اختبار لتعرّف رد الفعل الإسرائيلي الداخلي حيال ما يمكن أن تُقدم عليه حكومة «أولمرت« بشأن أي تسوية مع الفلسطينيين تتطرق إلى مسألة القدس.. وأيضًا لتعرف رد الفعل الفلسطيني حيال تلك الطروحات، التي يمكن أن ينظر إليها البعض على أنها تمثل تحولاً جديًا في الموقف الإسرائيلي من قضية هذه المدينة، رغم أن الفلسطينيين لا يثقون بالجانب الإسرائيلي، ويدركون جيدًا أن اقتراحاته بشأن القدس لن تحقق ما يطمحون إليه، وهو أن تكون المدينة عاصمة لدولتهم المستقلة التي يتوقون إليها.