أبلغ معلم يمكن أن تحتكم له وتتعلم من تجاربه هو التاريخ، والكتب التي ترويه تنبئك بخلاصة الحياة التي نعيشها؛ عن المسرات والمصائب، التعايش بحب وسلام في بناء الأوطان، أو امتهان صناعة الحروب والفساد. إن التاريخ يخبرك عن الإنجازات الحقيقية التي وقعت أو البطولات الوهمية التي حاول البعض اختلاقها ونهاياتها... كل ذلك بمعايير الزمن الذي وقعت فيه؛ ماذا كانت النهايات، ومن أين بدأ الشرر، أو كيف كانت بذرة الازدهار والتفوق؟ تتعلم من الدروس كيف عليك أن تتجنب الضرر وتتقي الأسوأ، أو تكمل طريق النجاح عند آخر نقطة وصل إليها مميز سبقك. قد تختلف أشكال تلك الأحداث التي وقعت عن الحاضر الذي تعيشه، لكن الإنسان المحرك لخيرها وشرها هو ذاته، تعلّم وتطور إلا أن خريطة الجينات لا يمكن أن تتبدل في طريقة تفكيره وتفاعله مع محيطة وردات فعله، لهذا فحكايات التاريخ المكتوب- هذا إذا قررت أن تقرأ وتستوعب وتتعظ، ترشدك كيف عليك أن تتصرف، إنها تختزل لك تجارب من عاشوا قبلك. وسيرة الشخصيات التي غيّرت مجتمعاتها وتركت بصمة نافعة في سجل تاريخ الإنسانية هي أعظم معلّم لوصفة النجاح، فهؤلاء لم يذكرهم الزمن وتروي الألسنة سيرهم عبثاً، إذ لابد أنهم صنعوا مفارقات جعلتهم نموذجاً يُحكى. وفي الزمن الحديث فإن الشخصيات التي خلّدها التاريخ معدودة، ذلك أن معادلة الشر غلبت، وأوهام الذات وكبرياء العظمة والغرور طغت، وانتشر الطغيان والفساد والظلم بصورة مروّعة سوّدت أغلب صفحات التاريخ الحاضر. الشيخ زايد بن سلطان طيّب الله ثراه واحد من أهم هذه الشخصيات التي دخلت التاريخ الحديث، في الصفحات التي تروي سيّر الرجال الكبار الذين صنعوا وغيّروا حاضر بلدانهم نحو الأفضل، وتركوا بصمة إنسانية وسعوا إلى نشر السلام والخير والمحبة. أجمع العالم على حبه واحترامه، والوقوف إعجاباً بإنجازاته وثناءً على أخلاقياته التي تمسّك بها وحافظ عليها في مختلف الظروف والمواقف. ذلك أنه كان صادقاً مخلصاً محباً لبلده وشعبه وأمته. لهذا فإن الجيل الحالي من أبناء الإمارات محظوظ لأنه عاش في زمن زايد، وشاهد هذه الشخصية التاريخية واستمع إليها، وعاصر مراحل بناء الوطن. هذا الجيل سيروي يوماً ما لأبنائه وأحفاده كيف قام وكبر هذا الوطن، كيف قاد الزعيم الحكيم مسيرة بناء الإنسان، والنهوض بالدولة، وتعمير المكان. فليس سهلا أن تبني وطناً من إمارات متفرقة، ومجتمعات تتجاذبها ولاءات الأحلاف، وتلعب بها أهواء الأمم وأطماع دول الجيران، فضلا عن واقعها المعيشي الصعب. لا مال عندك، لا تعليم، ولا صحة... وأهم من ذلك لا أمن عندك ولا استقرار! هكذا كان حال هذه الأرض وأهلها، كما تقول صفحات التاريخ. زايد قدّم لنا الاتحاد، وبنى لنا وطناً، وصنع لنا هذه السمعة والمكانة، وجعلنا أكثر الشعوب طموحاً، وأشهرها بالوفاء والكرم والأخلاق الطيبة... رسم لنا الطريق، وأمّن لنا المستقبل، ترك لنا وطناً مستقراً مزدهراً يقوده ويرعاه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد. ماذا قدّمنا نحن لزايد؟ كان ذلك السؤال الذي طرحه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي وهو يصعد إلى المنصة قبل عامين ليتسلم جائزة زايد، بكلمات عفوية لامست شغاف قلوب الجميع، سأل الجمهور الذي كان حاضراً في المسرح أو يتابعه عبر الإعلام، وجّه لهم النصيحة وذكّرهم بالواجب اتجاه زعيم غير عادي. هناك عشرات البرامج والمقاطع والملاحق والصور والأغاني أنتجتها الوزارات والدوائر ووسائل الإعلام والقطاع الخاص، كلها جهود تحاول أن تعبر عن مكانة هذا القائد الأب والباني عندنا، لكن ما العمل الذي يمكن أن نصفه بأنه قيّم، ويؤثر ويبقى في الذاكرة؟ نتحدث عن أعمال لها ثقل وقيمة تاريخية، وتليق بذكرى ومكانة هذا القائد على المستوى الدولي. أعظم عمل يمكنه أن يرسخ سيرة وحياة زايد، هو متحف "زايد الوطني" الذي وضعت لبناته قبل سنوات في احتفال ضخم. هذا المعْلم الذي سيقام بالمنطقة الثقافية في جزيرة السعديات سيكون علامة فارقة عند الانتهاء منه وسيقدم للزائر ولابن الإمارات شرحاً عن سيرة وإنجازات زايد ومحفوظات نادرة تتحدث عن مراحل حياته وحكمه. وهناك جائزة أدبية مرموقة تحمل اسمه، هي جائزة زايد للكتاب، وأخرى علمية، هي جائزة زايد لطاقة المستقبل. وماذا أكثر من ذلك؟ كتاب مهم أو ثلاثة كتب تتحدث عن سيرة زايد، وبرنامج تلفزيوني توثيقي بقيّ في الذاكرة عرضته قبل سنوات قناة "العربية"! وماذا أكثر من ذلك؟ نحن بلد هويته الثقافة ويملك مؤسسات ثقافية كبرى وعشرات القنوات الفضائية، وتبث من أرضه مئات المحطات، بلد التكنولوجيا حيث سبقنا غيرنا في المحيط الإقليمي باستخدام التقنيات وعوالم الإنترنيت. بلد صنع وموّل شركات الإنتاج السينمائي والتلفزيوني العالمية والإقليمية لإنتاج أفلام وبرامج بكل لغات العالم... ماذا قدّمنا للعالم عن هذه الشخصية التاريخية الفريدة؟ والسؤال الأهم عندنا في الداخل، نحن أفراد المجتمع، أين زايد فينا؟ دعاء العجائز و"الشواب" عند كل حركة والتفاتة يقومون بها، وفي كل صلواتهم مرددين: "الله يرحم زايد"، هذه أمور عظيمة لأنها أغلى ما يملكه هؤلاء الكبار، ولأنها تصدر من قلوب وفية، صادقة ومخلصة في حبها ودعواتها. لكن ماذا قدّم بقية أفراد المجتمع، الجيل الجديد تحديداً، لزايد؟ هل حافظوا على وطنهم، الوطن الذي بناه زايد، وأوصاهم به؟ هل راعوا أمنه واستقراره؟ هل أخلصوا له؟ هل تآلفوا، وعملوا على رفعة شأنه بإخلاص واجتهدوا في أعمالهم؟ هل يمكنهم أن يحاربوا من أجله، يفدونه، كما رددوا في أناشيد الطفولة، بأرواحهم؟ كيف هو جيل الآباء كقدوة حسنة لأبنائهم في محبة الوطن والولاء لقيادته، والمحافظة على مكتسباته؟ كيف يزرعون فيهم صورة زايد وخصاله والمبادئ التي حاول غرسها في المجتمع طوال حياته بيننا؟ جاك شيراك، الرئيس الفرنسي الأسبق، عندما سمع نبأ وفاة الشيخ زايد، ألغى ارتباطاته وقطع اجتماعات القمة الأوروبية وركب طائرته وحرص شخصياً على الحضور إلى أبوظبي ليقدم تعازيه. كان قبل عام تقريباً في زيارة للدولة وحضر معرضاً بقصر الإمارات، وبدا المرشد منهمكاً وهو يشرح له جماليات وتفاصيل المعروضات، ومرا على صورة كبيرة للشيخ زايد، فتوقف الضيف يتأملها وأخذ هو زمام المبادرة والحديث، فقال للمرشد ولمن كان حاضراً: هذا رجل عظيم صادق، إنني أحبه كثيراً، وأخذ يحدثهم وكله إعجاب وتأثر عن ذكرياته معه. نقلا عن صحيفة الاتحاد