ربما تكون المدينةالمنورة أكبر مساحة في العالم يحظر فيها بيع وشراء منتجات التبغ، عطفا على القرارات الحكومية المتتابعة التي كان آخرها حظر التدخين ضمن أوسع نطاق أو ما يسمى حضريا ب«المدينة الكبرى». وتأتي لغة الأرقام، التي تقول إن مساحة المدينةالمنورة العمرانية تصل لنحو 293 كيلومترا مربعا، تشغلها الأحياء والعمران، من إجمالي نحو 589 كيلومترا مربعا تمثل المساحة النظرية للمدينة المنورة، كما يشير لذلك مركز بحوث ودراسات المدينةالمنورة. والقرار الذي يحظر بشدة، بيع وشراء التبغ بأشكاله «السجائر، الجراك، المعسّل»، في المنطقة المركزية، حول الحرم النبوي، وفي منطقة ما يسمى «الدائري الثاني»، و«الدائري الثالث»، حيث تتوزع المدينة إلى ثلاث دوائر، يأتي مدفوعا برغبة الجهات البلدية هناك لتكون المدينةالمنورة «بلا تدخين». غير أن واقع الحال، يقول بتحديات كبرى تواجه إنفاذ هذا القرار، بل ان «سوقا سوداء» في المناطق الثلاث، انتعشت خلال العامين الأخيرين، خاصة في المناطق التي تشتد فيها الرقابة الحكومية، على محلات البقالة والتموينات الكبرى، إذ كشفت جولة ميدانية ل«الشرق الأوسط» أن الحصول على علبة سجائر، في المنطقة المجاورة للحرم النبوي، لا تكلف سوى 8 ريالات، للعلبة الواحدة التي لا يزيد سعرها في الأسواق العامة عن 5.5 ريال. هاني، شاب صغير، لا يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، ويعمل حارسا أمنيا، في أحد الفنادق الفاخرة، المطلة على الحرم النبوي، تطوّع، بنحو 10 دقائق من وقته، لشرح الطريقة التي يشتري بها الكمية التي تكفيه لاسبوع «أدخن حوالي 30 سيجارة في اليوم، عملي مرهق، ولا استطيع ترك هذه العادة. أشتري بالجملة ما يكفيني، وأحيانا أبيع لنزلاء الفندق ممن أثق بهم أو أعرف من سحناتهم أنهم حقا قادمون من الخارج». ويضيف، الشاب هاني «هنا العقوبات مشددة من إدارة الفندق، فيما لو شوهد أحد العاملين وهو يدخن» ليعلق ساخرا «رغم أن رائحة السجائر تملأ غرفة المدير». وفي إحدى الاستراحات التي تقع خارج حدود الدائري الثالث حاليا، بدى أن معظم العاملين ومرتادي تلك المقاهي، لا يعلمون عن القرار الجديد، الذي يحظر الترخيص أو التجديد لأي منشأة تتاجر ب«التبغ» بجميع مشتقاته، إذ استغرب عامل مصري، يناديه العملاء، ب«البرنس»، علمه بأن قرار الحظر سيطالهم رغم بعدهم عن النطاق العمراني، يقول «لا أعرف لماذا تمنع سلعة مسموحة وتدخل عبر الموانئ السعودية، نحن هنا بعيدون عن العمران والأطفال، لا أعتقد أن قرارهم يمكنه النجاح. الناس في المدينة يعتبرون الأرجيلة جزءا من حياتهم». الطريقة التي بدا العامل بها متأثرا للغاية، تشير إلى أنه أكبر من مجرد عامل في مشروع، من المؤكد أن يدر دخلا يوميا جيدا، في ظل انسحاب كثير من المستثمرين من هذا النشاط ، وانحسار المنافسة على عشرات المقاهي خارج حدود الدائري الثالث. خاصة وأن انسحاب الكثيرين جاء متبوعا بحملات دينية، استطاعت إقناع كثيرين بتحويل أنشطتهم التجارية أو على الاقل الامتناع عن بيع السجائر واستبدالها ببيع «الاشرطة الدينية». وفي صيغة القرار الصادر من أمانة منطقة المدينةالمنورة، والموجه لعدة بلديات تصنف بعضها بأنها خارج حدود الدائري الثالث، تشير الأوامر الالحاقية الى أمر سامٍ صدر قبل نحو 8 أعوام حول نظام مكافحة التدخين، لتنص بعد ذلك على «إلحاقا إلى القرار الإداري، القاضي بحظر بيع التبغ بجميع مشتقاته سواء كان دخانا أو جراكا أو معسلا في المنطقة داخل الدائري الثالث والمحلات المطلة عليه من الخارج المبني على الأمر السامي الكريم بشأن الموافقة على نظام مكافحة التدخين والعمل على تكثيف البرامج التوعوية للحد من هذا البلاء». ويحدد القرار في صيغته المبلغة للبلديات الفرعية، في، أحياء، العوالي، الحرم، قباء، العقيق، العيون، احد، الصويدرة، باعتماد «منع إصدار تراخيص جديدة أو تجديد القائمة حاليا لمحلات بيع الدخان أو وكالات الدخان أو بيع الجراك والمعسلات أو إصلاحها ضمن نطاق المدينة الكبرى، وتكليف المختصين لديكم بمتابعة تنفيذ ذلك والإفادة». وبين قرار «المنع» من أمانة المدينةالمنورة، و«التحايل من قبل بعض المستفيدين من استمرار هذا القرار، يرى شبان في شارع سلطانة، وهو الشارع الأكثر شهرة في المدينةالمنورة للتجمعات الشبابية، وفيه تنتشر معظم مقاهي الانترنت والكوفيهات، ومحال الالبسة الأجنبية، أن القرار، مناسب لروحانية المدينة من جهة، وغير مناسب من تحويل «السجائر» الى سلعة «محظورة» شأنها شأن «الممنوعات الأخرى». يشعل الشاب سراج الحربي، سيجارته، قبل أن يشرع في الحديث «الأمر ببساطة أنني ووالدي ندخن، كل ما في الأمر أننا نشتري ما نحتاجه مرة واحدة. لكن ما يضايقني هو أنني لا أستطيع إشعال السيجارة في أماكن عديدة إلا ويضايقني أحدهم بعبارة ما»، ليتساءل الحربي «العمالة الوافدة استطاعت الاستفادة من القرار برفع الاسعار وتكوين خلايا للتوزيع». غير أن صديقه الجالس بجواره في المقهى، وهما زميلان أيضا في الدراسة، بدا سعيدا كونه لا يحب رائحة التدخين «أعتقد أن القيمة الدينية للمدينة المنورة تفرض السماح ببيع السجائر ضمن أضيق نقطة ممكنة.. مثلا الاستراحات خارج الدائري الثالث». مضيفا «رغم أني لست مدخنا لكني أرى أن المنع بالاطلاق يمكن أن يجعل من مسألة التدخين نفسها عملا سريا تماما كما يحدث في جلسات المخدرات». غير أن مسؤولا حكوميا، في إحدى اللجان الرقابية، التابعة لأمانة المدينةالمنورة، فضل عدم الاشارة لاسمه، أكد أن الحظر يطال فقط عملية «البيع والشراء»، وأن هناك غرامات تصل الى 10 آلاف ريال طالت بعض المحلات المخالفة، مؤكدا أن قرار «منع التدخين» لا يطال المدخنين أنفسهم، كي لا يتحول الأمر عن هدفه التوعوي، بتقييد مثل هذه التجارة عن أرفف المحلات بالدرجة الاولى. مشيرا في الوقت نفسه إلى أن «حرمة المسجد النبوي تفرض على المسلم عدم اثارة مشاعر إخوانه من الزائرين والمصلين، وأن حظر التدخين في المنطقة الملاصقة للحرم «المنطقة المركزية»، يفترض أن يطال الجميع». المشاهدات الميدانية ل«الشرق الأوسط»، بينت أن سائقي الحافلات، والذين تصل أعدادهم للمئات خلال اليوم الواحد، يشكلون، مصدرا من مصادر توفير التمويل، للمدخنين الذين يواجهون صعوبة بالغة في الحصول على سيجارة واحدة، خاصة من الزوار الذين يأتون الى المدينة للمرة الاولى في حياتهم، فيما يرى آخرون أن فترة اقامتهم للمدينة التي تمتد أحيانا لاسبوع، أنها «فترة روحانية يرتاح فيها المسلم من عاداته السيئة». وتقوم جهات تطوعية معنية بمكافحة التدخين، بوضع نشرات تبين ما للتدخين من أذى، وتستعين بأحاديث نبوية شريفة، تنص على، أين تقع حرمة المدينةالمنورة جغرافيا، حتى أن أبرز معالم المنطقة المركزية، وجود لوحات نيون في أكثر من 100 موقع، يتوقف الزائرون والمصلون كثيرا لقراءة ما فيها من أحاديث، كالذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر أخدمه، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً، وبدا له أُحُدٌ قال: «هذا جبل يحبنا ونحبه» ثم أشار بيده إلى المدينة: «اللهم إني أحرم ما بين لابتيها، كتحريم إبراهيم مكة، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا». ويشير مسؤولون في الجمعية الخيرية لمكافحة التدخين، الى أن السعودية تحتل المرتبة الرابعة عالميا ضمن قائمة الدول المستوردة للتبغ على مستوى العالم ويباع في أسواق السعودية أكثر من 15 مليون سيجارة سنوياً، بنسبة انفاق تصل الى أكثر من 1,8 مليار ريال سنوياً لاستيراده.وتكشف تقارير صحية صادرة في عام 2005 أن السعودية، عملت على إنشاء عيادات متخصصة لمكافحة التدخين، والانضمام لقائمة دول العالم الموقعة على اتفاقية مكافحة التدخين، إلا أن نحو 23 ألف شخص يموتون سنويا، بمعدل يصل إلى وفاة 63 شخصا يوميا، وأن ثلث الأمراض السرطانية الموجودة في السعودية ناتجة عن التدخين، وهو ما يفسر اتجاه الصحة السعودية لاطلاق أكثر من 13 حملة توعوية خلال عام واحد لمكافحة الامراض السرطانية، وأخيرا اتجاهها بقوة لمقاضاة شركات التبغ ومطالبتها بتعويضات مالية تصل لمليارات الريالات. وهناك اتجاه عالمي لفرض حظر التدخين بسلطة القانون، إذ كان أعضاء في مدينة تقع شمال ولاية كاليفورنيا الاميركية، قد أعلنوا العام الفائت عن قرار وصف بأنه «الأشد» يقضي بحظر التدخين في المباني السكنية والحدائق وعلى جوانب طرق المدينة والشوارع، وعلى مسافة أقل من ستة أمتار من مدخل أي مؤسسة، بدعم قوي من عائلات وأسر مرضى مصابين بالسرطان. في الوقت الذي كانت تقارير إعلامية قد أشارت لمشادات وصلت «للاعتداء» و«الضرب» إثر سريان قانون ألماني، في أغسطس الماضي، يقضي بتطبيق قانون منع التدخين في المرافق والأماكن العامة، فقد سجلت الشرطة الألمانية مئات الوقائع التي تعبر عن المغالاة في تطبيق القانون من دون رحمة.