استعرت هذا العنوان من كاتبنا الكبير الراحل خالد محمد خالد، وكان دائما يبشر بالبدايات الطيبة ويؤكد ان الشعوب قادرة على ان ترسم مصيرها وتحقق أحلامها حتى وإن طال بها الزمن. ظهر الوجه الحضاري للمصريين والمجلس العسكري يسلم السلطة للرئيس المدني المنتخب في احتفال مهيب.. كان حشد جامعة القاهرة وأداء اليمين في المحكمة الدستورية تأكيدا على اننا امام دولة مؤسسات لها ثوابتها التي تحكمها وتمتد في أعماق التاريخ. ظهر الوجه الحقيقي للمصريين رغم ما تركته ايام الفوضى والانفلات واللهو الخفي في الشارع المصري من مظاهر الإنقسام والتشرذم وعدم المسئولية.. كانت احتفالية تنصيب د. محمد مرسي رئيسا تجسيد لهذا الوجه الحضاري.. رغم كل الأزمات التي خلفتها صراعات الانتخابات ورغم ان الرئيس المنتخب ينتمي إلى جماعة محظورة طبقا للمصطلح القديم.. ورغم رفض قطاع كبير من النخبة لهذه الصيغة في الحكم، ورغم وجود مرشح آخر هو الفريق أحمد شفيق وهو أحد أبناء المؤسسة العسكرية التي تناوب رموزها الحكم منذ ثورة 52، إلا ان المجلس العسكري سلم السلطة مقدما نموذجا فريدا للديمقراطية الحقيقية التي ظل المصريون سنوات طويلة يحلمون بها.. الأن أصبح عندنا ولأول مرة منذ ستين عاما رئيس مدني منتخب بإرادة شعبية من خارج المؤسسة العسكرية.. هذا في حد ذاته تغيير كبير و انقلاب حاد.. يأتي الرئيس مرسي وامامه تراث طويل من الانقسامات التاريخية منذ ثورة يوليو 52.. وتاريخ حديث وقريب جدا من انقسامات ما بعد ثورة يناير وما بين ثورتي يوليو ويناير وقع المجتمع المصري فريسة سهلة للإنقسامات بعضها صنعته قوى الإستبداد والبعض الأخر أفرزته خطايا النخبة وفي كل الحالات فنحن امام رئيس انقسم عليه المجتمع ما بين نصف أيده واختاره ونصف آخر اختار غيره وهذه هي الديمقراطية إذا كنا راغبين فيها.. هنا يكون السؤال هل ينجح الرئيس الجديد في ان يجمع شتات المصريين مرة أخرى.. وهل يمكن ان نشهد في عهده مصالحة بين القوى الوطنية نتجاوز بها هذا الواقع المأساوي الذي قسم ابناء الأسرة الواحدة.. بداية لابد ان نعترف بأننا امام تراث وتاريخ طويل من الانقسامات التي بدأت مع ثورة يوليو.. يومها انقسم المجتمع المصري إلى قوى الثورة في بدايتها وكان منها جماعة الإخوان المسلمين قبل ان ينقلب عليها الضباط الأحرار.. ثم كانت رموز العهد البائد من الإقطاعيين والباشوات وزعماء الأحزاب السياسية وكبار المثقفين.. ثم كانت انقسامات اهل الثقة واهل الخبرة ثم قوى الشعب وأعداء الشعب ثم الثورة والثورة المضادة ثم كانت المواجهة التاريخية مع الإخوان المسلمون والتي إمتدت عشرات السنين.. كل هذه التقسيمات السياسية والفئوية ظهرت مع ثورة يوليو ولكن سرعان ما ذابت كل هذه الصراعات بعد ان اتضحت اهداف الثورة وإنجازاتها في عملية التغيير والتي تجسدت في توزيع الأراضي ومجانية التعليم وطرد الإستعمار الإنجليزي وإقامة السد العالي وتأميم قناة السويس وهذا يؤكد حقيقة مهمة يمكن ان تكون لنا درس الآن إن الإنجازات الحقيقية هي أقرب الطرق لتوحيد صفوف الأمة وإرادة الشعب بما في ذلك قوي المعارضة أو ما يسمى الثورة المضادة. نحن الآن وامام ثورة يناير نواجه نفس الأزمة والتي تجسدت في هذا الإنقسام الحاد الذي شهدته الساحة السياسية ما بين الإخوان المسلمين والليبراليين والعلمانيين والتيارات السلفية وقبل ذلك كله كتائب الثوار من الشباب.. إن المشكلة الحقيقية التي وقفت وراء انقسام القوى السياسية بعد ثورة يناير ان الثورة جاءت بلا قيادات وبلا برنامج وبلا حشود بشرية متجانسة تجمعها فكرة أو يوحدها طريق.. لقد اجتمع الثوار وهم شتات أفكار مختلفة ما بين الإخوان والسلفيين والليبراليين والأحزاب القديمة، وكان الهدف هو خلع رأس النظام ووقف عملية التوريث وحين تم ذلك تصورت هذه القوى ان الثورة نجحت وذهب كل فريق إلى بيته. ولا شك ان جميع الأطراف المشاركة في الثورة خرجت راضية تماما عن إنجازها وتصورت انه يكفي، وهنا بدأت رحلة الخلافات بين هذه القوى وأصبح لكل فريق حسابات مختلفة.. بدأت لعبة الصراعات ما بين البيان الدستوري والاستفتاء عليه والإنتخابات البرلمانية وما حدث فيها وإنتخابات مجلس الشورى ثم كانت معركة الرئاسة.. في ظل هذا المناخ تشرذمت جميع القوى ونسيت أهداف الثورة وبدأ كل فريق يسعي للحصول على شئ من الغنيمة.. كانت هناك أهداف إجتمعت حولها القوي السياسية وهي رحيل رأس النظام ووقف برنامج التوريث ونسيت هذه القوى ان هناك حسابات غابت عنها.. تجاهلت هذه القوى المتصارعة دماء الشهداء وآلاف المصابين وأسرهم والرأي العام الذي نسيهم خاصة بعد ان تعرضت الثورة لعمليات تشويه ضارية طالت كل شئ فيها ابتداء بالشهداء ودمائهم الزكية وإنتهاء بإتهامات التمويل والعمالة. تجاهلت القوى المتصارعة موقف رؤوس النظام السابق التي بقيت في مواقعها في مؤسسات الدولة وكل ما نهبته من اموال واصول، هي قبل كل شئ حق للشعب ينبغي استرداده.. ولا بد ان نعترف ان الأجهزة المسئولة لم تكن بالجدية المطلوبة لكي تتبع هذه الأموال الهاربه في الداخل والخارج وضاعت فرص كثيرة امام التراخي والإهمال وربما التواطؤ لإسترداد هذه الأموال. على الجانب الآخر كان غياب الأدلة والبراهين وراء أسباب تبرئة رموز النظام السابق في قضايا قتل الشهداء والاعتداء على المال العام ونهب ثروات الشعب وامام غياب جهاز الشرطة وتلفيق المحاضر والتحقيقات. لم تتوافر أركان المحاكمات الصحيحة، وهنا خرج جميع المتورطين في هذه الجرائم دون إدانة من القضاء.. وهنا اندفعت قوى النظام السابق بما لديها من أموال ضخمة سخرتها في مواجهة صريحة مع الثورة على كل المستويات، فكانت مجموعة الجرائم والاغتيالات التي ظهرت في محمد محمود والسفارة الإسرائيلية وماسبيرو ومجلس الوزراء والعباسية، وفي الوقت الذي تخلت فيه قوى الثورة عن هذه الأولويات الضرورية دخلت في صراعات مع بعضها البعض وصلت إلي درجة التخوين والعمالة. وهنا أيضا كانت الصراعات حول الإنتخابات البرلمانية ثم الانتخابات الرئاسية ووصل الحال بهذه القوى إلى ان يتعاون بعضها مع النظام السابق لضرب بعضها البعض، وكان شيئا غريبا ان تجد الثوار الذين خرجوا من ميدان التحرير ينضمون إلى رموز العهد السابق وخرج الجميع من المعركة خاسرين.. والآن هل يمكن ان نلم شتات هذه القوى وهل ينجح الرئيس محمد مرسي في ان يجمع كل هذه التيارات نحو هدف واحد هو الخروج بمصر من هذا النفق المظلم؟.. إن الدكتور مرسي يستطيع الآن في موقعه ان يواجه بعض أخطاء الفترة الانتقالية وسوف يكون ذلك نقطة البداية لأن تستعيد قوى الثورة توحيد إرادتها.. يستطيع الرئيس ان يفتح ملفات الشهداء والمصابين وان يعيد لهم كامل حقوقهم.. ويستطيع ان يفتح ملفات التحقيقات في جرائم قتل الشهداء من خلال لجان تحقيق قضائية محايدة تكشف ما حدث من ملابسات وتقدم ما يتاح لها من الأدلة في جرائم قتل الشهداء.. ويستطيع الرئيس ايضا ان يأمر مؤسسات الدولة المتراخية باتخاذ الإجراءات القانونية والسياسية اللازمة لإسترداد اموال الشعب من الرؤوس الهاربة.. إن ذلك يحتاج إلى نشاط أكبر من جهاز الكسب غير المشروع ووزارة الخارجية ووزارة العدل والنائب العام وبجانب هذا شئ من السرعة في تتبع هذه الجرائم داخليا وخارجيا. هذا فيما يتعلق بالرواسب التي تركتها أحداث المرحلة الانتقالية بعد الثورة، ولكن ينبغي ان تواجه القوى السياسية أخطاءها في معارك الانتخابات وما حدث فيها من تجاوزات.. لابد ان تعترف هذه القوى بأننا امام رئيس جديد منتخب ويجب ان نمد له أيدينا حتي ولو لم يكن خيارنا، إلا انه حصل على أغلبية وصلت به إلى الرئاسة.. إن المطلوب هنا هو ان نحشد قوانا حتى وإن اختلفنا مع الرئيس الجديد لأن المستقبل لا يحتمل المزيد من الصراعات والمعارك ويكفي ما مضى.. نحن امام تجربة جديدة مع تيار فكري وطني مختلف ولا بد ان يأخذ فرصته وهو بدوره لا بد ان ينطلق من نظرة شاملة لقضايا المجتمع والقوى السياسية فيه لابد ان يفتح الرئيس الجديد الأبواب امام كل صاحب فكر وموقف وان يطوي صفحة الماضي، لأنه الآن رئيس لكل المصريين. هناك جانب آخر يجد الآن صدى لدى البعض وهو المصالحة مع العهد البائد ورموزه التي لم تتورط في قضايا الفساد والقتل، وهنا نتوقف عند نقطة أساسية يمكن ان يدور حولها الحوار وهي الأموال المنهوبة.. إذا وجدنا امامنا فريقا كبيرا من أبناء هذا الشعب الذين صحت ضمائرهم وأفاقت نفوسهم وقرروا رد الأموال التي حصلوا عليها بدون وجه حق، وقرروا إعادتها للشعب، هنا يمكن ان يبدأ الحديث حتى ولو وصل إلى مصالحة كاملة معهم، المهم في الأمر هو حجم الأموال والأصول التي يمكن استردادها.. هنا يمكن ان نقول إن المصالحة ينبغي ان تبدأ مع مواكب الثورة بكل توجهاتها وهنا أقترح على الرئيس محمد مرسي ان يجمع رموز كل القوى السياسية والفكرية والثقافية والإعلامية ويناقش معها مستقبل مصر في ظل رؤى تنطلق بنا نحو بناء مصر الجديدة.. على جانب آخر ان تفتح مؤسسات الدولة بابا للحوار إذا كان من الممكن استعادة اموال الشعب بالطرق السلمية.. وقبل هذا كله ان نضع برنامجا محددا لإعادة حق الشهداء والمصابين وتشكيل اللجان القانونية لإعادة المحاكمات. .. ويبقى الشعر عودوا إلى مصر ماء النيل يكفينا منذ ارتحلتم وحزن النهر يدمينا أين النخيل التي كانت تظللنا ويرتمي غصنها شوقا ويسقينا ؟ أين الطيور التي كانت تعانقنا وينتشي صوتها عشقا ويشجينا؟ أين الربوع التي ضمت مواجعنا وأرقت عينها سهدا لتحمينا ؟ أين المياه التي كانت تسامرنا كالخمر تسري فتشجينا أغانينا ؟ أين المواويل ؟.. كم كانت تشاطرنا حزن الليالي وفي دفء تواسينا أين الزمان الذي عشناه أغنية فعانق الدهر في ود أمانينا هل هانت الأرض أم هانت عزائمنا أم أصبح الحلم أكفانا تغطينا جئنا لليلي.. وقلنا إن في يدها سر الحياة فدست سمها فينا في حضن ليلي رأينا الموت يسكننا ما أتعس العمر.. كيف الموت يحيينا كل الجراح التي أدمت جوانحنا ومزقت شملنا كانت بأيدينا عودوا إلى مصر فالطوفان يتبعكم وصرخة الغدر نار في مآقينا منذ اتجهنا إلى الدولار نعبده ضاقت بنا الأرض واسودت ليالينا لن ينبت النفط أشجارا تظللنا ولن تصير حقول القار.. ياسمينا عودوا إلى مصر فالدولار ضيعنا إن شاء يضحكنا.. إن شاء يبكينا في رحلة العمر بعض النار يحرقنا وبعضها في ظلام العمر يهدينا يوما بنيتم من الأمجاد معجزة فكيف صار الزمان الخصب.. عنينا؟ في موكب المجد ماضينا يطاردنا مهما نجافيه يأبي أن يجافينا ركب الليالي مضي منا بلا عدد لم يبق منه سوي وهم يمنينا عار علينا إذا كانت سواعدنا قد مسها اليأس فلنقطع أيادينا يا عاشق الأرض كيف النيل تهجره ؟ لا شيء والله غير النيل يغنينا.. أعطاك عمرا جميلا عشت تذكره حتى أتى النفط بالدولار يغرينا عودوا إلى مصر.. غوصوا في شواطئها فالنيل أولى بنا نعطيه.. يعطينا فكسرة الخبز بالإخلاص تشبعنا وقطرة الماء بالإيمان تروينا عودوا إلى النيل عودوا كي نطهره إن نقتسم خبزه بالعدل.. يكفينا عودوا إلى مصر صدر الأم يعرفنا مهما هجرناه.. في شوق يلاقينا "قصيدة عودوا إلى مصر سنة 1997" نقلا عن جريدة الأهرام