حين حطت طائرة تابعة للخطوط الجوية السويسرية قادمة من كراتشي في مطار مدينة زوريخ المتاخمة لألمانيا، وترجل منها راكبان يرتدي كل منهما عمامة تغطي رأسه، كان عملاء المخابرات الألمانية(بي أن دي) في انتظارهما. وعلي الفور إنهاء معاملات السفر واختفي عدد من الرجال مع الأفغانيين في سيارات سوداء سارت بهم خمس دقائق ثم توقفت في كاراج فندق (هيلتون) القريب من المطار. وبدلا من أن يدخل الجميع من الباب الرئيسي للفندق قضت الخطة أن يجري التكتم علي زيارة الرجلين. لذلك دخل الجميع من باب خلفي مخصص لموظفي الفندق. في هذا الفندق الفخم حجزت المخابرات الألمانية جناحا في الطبقة السادسة وغرفة اجتماعات وبالطبع دونت في بيانات الإقامة أسماء مستعارة. لا أحد يعرف حتي اليوم اسم الأفغانيين لكن ما كشف عنه قبل أيام أن هذه الزيارة تمت في شهر يوليو عام 2005 وأن الرجلين ينتميان إلي الطالبان، الذين أزاحتهم الولاياتالمتحدة عن السلطة في أفغانستان بنهاية عام 2001 بسبب تعاونهم الوثيق مع تنظيم (القاعدة). ففي أفغانستان تم التخطيط لهجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 علي الولاياتالمتحدة. ويقف الطالبان اليوم علي الطرف الآخر من جبهة القتال ضد الأمريكيين والألمان والبريطانيين وغيرهم من أركان حلف شمال الأطلسي. وأعلن الطالبان مسئوليتهم عن مقتل ثلاثة من الشرطة الجنائية الألمان في كابول قبل أسبوع. لكن غير معروف ما إذا العبوة الناسفة التي دمرت سيارتهم المصفحة كانت تستهدفهم أو كانت تستهدف قافلة عسكرية أمريكية كان من المخطط أن تمر من نفس المكان. زيادة علي ذلك فإن مئة جندي ألماني من فرقةKSK العسكرية الخاصة يحاربون مع قوات خاصة من الولاياتالمتحدة وبريطانيا فلول الطالبان و (القاعدة) في مناطق علي الحدود الطويلة بين أفغانستان وباكستان يعتقد أن أسامة بن لادن زعيم (القاعدة) موجود في مكان ما فيها. بينما يمكن القول أن ألمانيا، مثل سواها من دول حلف شمال الأطلسي المساهمة في مهمة(إيساف) في أفغانستان، في حالة حرب مع الطالبان الذي يجمع الساسة الألمان في كل مناسبة علي عدم السماح لهم باستعادة السلطة في كابول، فإن المخابرات الألمانية، طبعا بإيعاز من أعلي المراجع السياسية في برلين، تمارس السياسة الخارجية. ردا علي استفسار إذا قررت الحكومة الألمانية الحوار مع منظمة تعتبرها هيئة الأممالمتحدة إرهابية جاءت الإجابة الرسمية أن الموقف الرسمي لبرلين واضح وهو عدم الحوار مع إرهابيين. وعندما اقترح كورت بيك رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي الشريك في السلطة بعد زيارة قام بها إلي كابول، وعلي ضوء الهجمات الشرسة التي يشنها الطالبان علي الجنود الأجانب وكي يخف العبء عن الجنود الألمان، بأن يجري حوار مع العقلاء من الطالبان، تعرض إلي انتقادات حادة من قبل الاتحاد المسيحي الذي تنتمي إليه المستشارة ميركل. وفي الأسبوع الماضي خرج توماس شتيج نائب المتحدث باسم الحكومة الألمانية عن صمته وقال تعقيبا علي هذا الاستفسار أنه ينبغي الحوار مع المعتدلين من الطالبان الذين يرون أن مصلحتهم في نهاية المطاف تقضي بالصلح مع الأطراف الأفغانية الأخري والتعاون في عملية إعادة تعمير البلاد والمشاركة في عملية السلام. ويعتمد الحزب الاشتراكي الديمقراطي في دعوته للحديث مع الطالبان علي نتائج دراسة وضعها المعهد الألماني للعلوم والسياسة في برلين SWP التي تشير إلي وجود فرصة لإحداث شرخ داخل الطالبان.
فمن جهة هناك بعض القادة الذين تعلموا علي أيدي الملا عمر ويشار بأنهم متطرفون من الصعب التفاوض معهم لكن هناك بعض الطالبان الذين يوصفون بالمعتدلين يمكن إدماجهم في العملية السياسية لأنه لا يمكن تجاهلهم. وتشير المعلومات إلي أن اللقاء السري الذي أعدته المخابرات الألمانية مع الطالبان في زوريخ تم خلال ترؤس أوغوست هانينج الجهاز الألماني ويشغل اليوم منصب وكيل وزارة الداخلية. وتم اختيار الأفغانيين بعناية وكلاهما ينتمي إلي الصف الثاني من القيادة. أحدهما أطلق علي نفسه اسم(القائد) وزعم أنه قاتل ضد السوفييت إلي جانب الملا عمر. أما الشخص الثاني فقد قال أنه يعمل مستشارا له. وعند طلب تأشيرة الدخول إلي سويسرا قال الرجلان أنهما يريدان العلاج في قسم الأطراف الصناعية بالمستشفي الجامعي Balgrist الذي يعرف بأنه الأفضل في هذا المجال. ليست هذه أول مرة تجري فيها المخابرات الألمانية مفاوضات سرية مع منظمة يعاديها الغرب. فقد سبق وأن تفاوضت مع حزب الله ومع الخمير الحمر. وتفيد معلومات بالخصوص أن مكتب المستشار غيرهارد شرودر في ذلك الوقت وافق علي اللقاء الذي تم عن قصد أن يتم علي أرض محايدة كي لا يقال يوما أن ألمانيا أجرت محادثات رسمية مع الطالبان وأن الهدف هو التعرف علي عقلية الطالبان. قد بذل عملاء الجهاز الألماني جهدا كي يشعر الضيفان الأفغانيان بالراحة خلال إقامتهما في زوريخ. لم يطرق أحد باب الغرفة خلال انعقاد المحادثات أما الطعام فأوكل مطعم الفندق إلي موظفين رجال لخدمة الأفغانيين ولم تدخل غرفتهما امرأة واحدة حرصا علي تقاليدهما. وكان هم العملاء الألمان عدم لفت انتباه نزلاء الفندق لوجود الطالبان في مهمة سرية استمرت ثلاثة أيام. كان هدف المخابرات الألمانية معرفة ما إذا الطالبان علي استعداد لإنهاء العلاقة الوثيقة مع تنظيم (القاعدة). من وجهة نظر الغرب فإن إحداث شرخ في هذه العلاقة يعتبر شرطا أساسيا لنجاح الحرب المناهضة للإرهاب في الهندكوش. وعرض الألمان في المقابل زيادة مساهمتهم في بناء المستشفيات أو المساجد وكل متطلبات المجتمع المدني. وطالب (القائد) بصوت عال بأن يجري الاعتراف سياسيا بالطالبان مثلما اعترفت ألمانيا في السابق بياسر عرفات زعيم منظمة التحرير الفلسطينية وأن لا يجري وصفهم بإرهابيين بل التعامل معهم كقوة سياسية. وسمع الأفغانيان من ممثل المخابرات الألمانية شرط الاستجابة لمطالبه بأن يتنصل الطالبان من(القاعدة). ثم أعرب عن استعداد حكومة بلاده لعقد مزيد من المحادثات والتفكير لاحقا بالاعتراف بالطالبان كحزب سياسي. لم تسلك المخابرات الألمانية طريقا مستقلا بل تجري دول غربية محادثات مع الطالبان. ففي سبتمبر عام 2006 قرر البريطانيون الحديث مع المتمردين الأفغان في مدينة موسي قالا في الجنوب وعقدوا سلاما معهم وعد البريطانيون علي ضوء الاتفاق أن ينسحبوا من موسي قالا. وقام زعماء القبائل المحليون بالتوسط لمحادثات السلام. حتي الأمريكيين الذين يرفضون الحديث مع الطالبان بعيدا عن جبهات القتال حصلوا علي دليل أكثر من مرة بأن الطالبان علي استعداد للتفاوض معهم. وكانت المخابرات الألمانية قد أطلعت المخابرات الأمريكية وأجهزة أمن دول أخري علي عزمها الحديث مع الطالبان في سويسرا. ويقول مسئول أمني ألماني أن العديد من دول الغرب أجرت محادثات مع الطالبان. بالنسبة لحميد كرزاي فإن استراتيجية البقاء تقوم علي إبقاء الباب مفتوحا أمام الطالبان. ففي عام 2005 وفي الوقت الذي تم فيه اللقاء السري في سويسرا أوعز كرزاي إلي هيئة تعمل في تحضير ملف محادثات مع الطالبان. وفي شهر مايو من العام المذكور صوت المجلس الأعلي للبرلمان الأفغاني لصالح إجراء محادثات مباشرة مع الطالبان. وقال كرزاي حينذاك: إننا دائما نرحب بالطالبان الأفغان فهم ينتمون لهذا الوطن. أما عن الجرائم المروعة التي ارتكبها الملا عمر فسوف يقول الشعب كلمته بشأنها. وكشف كرزاي أنه شخصيا شارك في محادثات سرية مع الطالبان. كون اللقاء ظل سرا حتي وقت قصير فهذا عائد للضيفين الأفغانيين لأنها رفضا التنصل من(القاعدة) وعدم اهتمامهما بعرض ألمانيا زيادة مساهمتها في المشاريع المدنية. في عام 2005 جرت عدة لقاءات بين الألمان والطالبان في أوروبا حيث جاء الطالبان مرة بحجة العلاج أو زيارة أقارب. في النهاية لم يستطع الأفغانيان تقديم دليل علي أنهم يتحدثان باسم قيادة الطالبان. فحين كانت المحادثات تجري لاحظ عملاء المخابرات الألمانية كيف غير الطالبان إستراتيجيتهم وأصبحوا يتجنبون مواجهة جنود حلف شمال الأطلسي في جبهات مفتوحة وبدأوا يلحقون بهم خسائر عبر عمليات انتحارية وزرع عبوات ناسفة علي مفترقات الطرق وخطف الخبراء الأجانب. زيادة علي ذلك بلغ المخابرات الألمانية أنه كان بوسعها إلقاء القبض علي(القائد) ومستشاره حين تبين أن السلطات الأمريكية وضعت اسميهما علي القائمة السوداء ضمن 200 من الإرهابيين الأفغان المطلوبين لها.