بعد أحداث طرابلس، حصل ما هو أخطر في عكار، في شمال لبنان، حيث قتل الشيخ أحمد عبد الواحد ومرافق له على حاجز للجيش اللبناني. العملية تطورت كثيراً ولا تزال ارتداداتها تتفاعل في الوسط السياسي اللبناني عموماً والشمالي خصوصاً على مسافة قريبة من الحدود اللبنانية السورية. وفي ظل تفاقم الأوضاع الأمنية في سوريا، والتي تنذر بتفاعلات ونتائج دراماتيكية نظراً للإصرار السوري الرسمي على الحل الأمني، وللفوضى التي تعيشها سوريا كنتيجة عملية لذلك، وخصوصاً بعد خطف مواطنين لبنانيين في حلب عائدين من زيارة أماكن مقدسة، وانعكاس ذلك أيضاً على التوتر الداخلي في لبنان. الوضع في لبنان دقيق جداً، تحذيرات من كل حدب وصوب لعدم انزلاقه إلى الفوضى أو الحرب لا قدّر الله مجدداً، والقوى الأمنية يجب أن تكون حاضرة. وتتوافر لها كل الإمكانات، وخصوصاً الغطاء السياسي. لكنها يجب أن تعرف كيف تتصرف. وكيف تقدّر الأمور. والقيادة السياسية هي المعنية بذلك أولاً. أية خطوة سنقدم عليها يجب أن تكون موضع دراسة وتقييم. ويجب الاستفادة من دروس وعبر وتجارب الماضي. ولطالما ذهب كثيرون إلى الانفعال والتسّرع والعناد، فاستخدموا المؤسسات الأمنية في التوقيت الخطأ والموقف الخطأ والموقع الخطأ فورطوها وورطوا لبنان ودخلنا في حروب ومشاكل كثيرة. ويبدو مشهد الأيام الماضية في لبنان شبيهاً بها. أوقف مواطنون، واعتبروا إرهابيين. واعتبرت المؤسسات الأمنية أنها حققت فتحاً مبيناً ووضعت يدها على شبكات خطيرة وقامت بعمل بطولي أنقذ لبنان من هزات كانت ستحصل لولا هذا الإقدام وهذه الشجاعة! وانبرى كثيرون يهللون ويدافعون، ويعتبرون أن ثمة مؤامرة كبيرة، وقد أمسك برأس الأفعى! اهتز الوضع الداخلي، وأسيء إلى علاقات لبنان العربية، وقررت دول في الخليج استدعاء رعاياها من لبنان ومنع الباقين منهم من الذهاب إليه! تفاعلت الأزمة الداخلية. انزلق الوضع إلى مواجهات. رحنا نسمع دعوات ومطالبات – من مواقع مذهبية - بعودة الجيش السوري وتهديدات وتحذيرات. "فلتت" في الشارع في أكثر من مكان. أسيء إلى صدقية الجيش ودوره والمؤسسات الأمنية. وظهرت السلطة السياسية ضعيفة غير قادرة على المواكبة واتخاذ القرار رغم الجهود الكبيرة التي بذلت من مسؤولين كثيرين في أكثر من موقع وخصوصاً من قبل رئيس الجمهورية! فجأة تم إطلاق سراح المواطن القطري الموقوف، وركضنا إلى قطر نؤكد أننا عالجنا الأمر كما يجب! ماذا يعني كما يجب؟ ونرجو قيادتها تغيير موقفها، ثم أطلق سراح المواطن شادي المولوي الذي أوقف في طرابلس بعد استدراجه إلى مكتب النائب والوزير محمد الصفدي. أطلق سراحه من بيروت وانتقل رئيس الحكومة إلى طرابلس لاستقباله بعد تنظيم استقبال له في مكتب الصفدي. ذهبت الدولة للتسابق على استثمار "الفضل" في إطلاق سراحه! قال كثيرون: إذا كان إرهابياً فلماذا إطلاق سراحه؟ وإذا لم يكن كذلك فلماذا تم توقيفه؟ ثم اندلعت مشاكل في عكار وانتقلت إلى بيروت. لقد ورطوا الأجهزة الأمنية وأساءوا إلى صدقيتها ورسالتها كما إلى رسالة القضاء، وإلى علاقات لبنان العربية. ويبدو أن البعض لم "يشبع" بعد، ولم يرو حقده ولم يكتف، بل يريد دفع الجيش إلى مواجهات مع الناس، من خلال المطالبة ب"الضرب بيد من حديد" وقمع كل من يقف في وجه الجيش، وتكريس هيبة الدولة، وقوة حضورها، وهم في كل ما يقومون به يناقضون هذا الأمر. يكفي أنهم يندفعون وراء أخبار وتلفيقات وروايات، تؤذي لبنان، وكان آخرها ما ورد في كتاب المندوب السوري إلى الأمين العام للأمم المتحدة والذي شرح فيه الوضع في لبنان، "وعمليات تهريب السلاح" وغير ذلك، والذي تبين أنه غير صحيح كما قال رئيس الجمهورية رسمياً واستناداً إلى تقارير الأجهزة الأمنية اللبنانية وقيادة الجيش! هذه القيادة وهذه الأجهزة تنفي والمتملقون في لبنان والمراهقون والمغامرون في السياسة والحاقدون يؤكدون باسم هذه الأجهزة ويدافعون عنها تحت عنوان أنها كشفت المؤامرة! ويدخلون لبنان في متاهات خطيرة. قلنا ونكرر الحل أينما كان في السياسة وخصوصاً في لبنان. لبنان بلد الخصوصيات والتوازنات والحسابات الدقيقة، والتنوّع، والموقع الجغرافي الحساس . وثمة دول وأنظمة أقوى من لبنان وأكبر، وقرارها مركزي، ولا خلاف أو تباين أو تنافس بين مؤسساتها الأمنية وجيوشها قوية جداً، وعندما اختار قادتها الحلول الأمنية رأينا نتيجة ما قاموا به من الفوضى والفلتان والخراب والدمار فكيف ببلد مثل لبنان، بالكاد لو تفاهم أهله على كل شيء أن يتمكنوا من الخروج سالمين في هذه الظروف. لقد آن الأوان ليتعلم الجميع ويتعظّ مما جرى. لا العنتريات تنفع ولا الإندفاعات غير المدروسة تعطي النتائج المرجوة. وأي لعب على الأوتار المذهبية أو الطائفية وأي تلاعب بالمؤسسات الأمنية والسياسية والإدارية في هذا السياق، هو خطر على الجميع. بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وإثر موجة الاغتيالات التي تلت ذلك واستهدفت رموزاً من فريق الرابع عشر من آذار، وفي ظل الاتهامات لسوريا والمناخ الذي كان سائداً آنذاك حاول البعض من المحسوبين على هذا الفريق الانتقام من مواطنين سوريين أبرياء يعملون في البلد، اليوم بعد خطف مواطنين لبنانيين في حلب، حصل الشيء نفسه في الضاحية الجنوبية. إنها الحالة اللبنانية المتشابهة في كل وجوهها. اليوم، وأمام نداءات العقل والحكمة الصادرة من قبل بعض المرجعيات التي فتحت قنوات التواصل فيما بينها، من الرئيس سعد الحريري إلى الرئيس نبيه بري إلى السيد نصرالله ، والدور الكبير الذي يقوم به رئيس الجمهورية، والحركة المهمة التي يقودها الزعيم الوطني وليد جنبلاط، ينبغي الاستفادة من كل ذلك، للقاء والحوار والبناء على هذا المناخ لمنع انزلاق لبنان نحو الهاوية. إنها السياسة. إنها الخبرة السياسية، إنهم رجال القرار والمعرفة السياسية، وهذا ما نحتاج إليه. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية