في حديث مطول عبر التليفون مع صديقي المحترم الدكتور عصام نعمان "الوزير السابق في الحكومة اللبنانية"، حول ما يجري في مصر، وقد تعودت ان انقل الصورة بأمانة دون تهوين أو تهويل لكل الزملاء والاصدقاء "السياسيين والاكاديميين" في انحاء الوطن العربي على وجه الخصوص، لان هؤلاء مهتمون بالشأن المصري باعتباره شأنا عروبيا. وقد تجاذبنا الحديث، واعاد صياغته في مقال هام له، بعنوان "نحو قوة ثالثة لمنع اعادة انتاج نظام مبارك" ونشره في جريدة الخليج بدولة الامارات يوم 14 ابريل 2012 وشعرت مع قراءة المقال باقتناع د. عصام بقراءتي للواقع المصري في ظل تطورات ثورة 25 يناير، وقد اشار الى اسمي في المقال. لذلك رأيت ان أزيد الأمر وضوحا حول هذه الفكرة واهدافها ومقتضياتها. الاصل في الثورة هو ان هناك طرفين، الأول هو قوى النظام القائم وقت الثورة، والثاني هو القوى الثورية الطامحة للتغيير الجذري واسقاط النظام السابق كاملا برموزه وسياساته وقواعد عمله أو تشغيله في مواجهة القوى البائدة التي تسعى للحفاظ على الأوضاع القائمة والحيلولة دون اسقاط النظام والحفاظ على شبكات المصالح وفتح قنوات جديدة تخلق دروبا تحمي هذه المصالح.. وعندما استولى المجلس العسكري على السلطة في البلاد، رفض ان يشاركه أحد، معلنا انه مع الثورة ومطالبها، واستبشر الجميع خيرا عندما بادر فورا إلى حل مجلسي الشعب والشوري، دون أن يمتد الحل الى الحزب الحاكم الفاسد، أو الى المجالس المحلية الفاسدة، وأكثر من 95٪ من أعضائها ينتمون الى الحزب الوطني ..الخ ثم ادخلنا في متاهات "التعديلات الدستورية والاستفتاء" اللذين كانا يمثلان الفتنة السياسية وانقسمت البلاد على اثرهما بين فريقين، الاول يدعو الى الدستور أولا، والثاني يدعو الى الانتخابات أولا. وبعيدا عن التفاصيل التي يعرفها القاصي والداني، فإن فريق القوى الثورية تشتت وانقسم بحكم مسارعة تيارات الاسلام السياسي لجني ثمار الثورة وحدهم، وبسرعة وفي مقدمتهم الاخوان المسلمين والسلفيون فأيدوا مخطط المجلس العسكري وبمشاركتهم حتى عقد الصفقة فيما بينهم وبغطاء امريكي واضح على خلفية عدم قناعتهم بالثورة كعمل يستهدف التغيير الجذري الأمر الذي توافقوا حوله وعملوا من اجله وهو استمرار نظام مبارك، ويتم بمقتضاه اقتسام السلطة بين المجلس العسكري ونظام مبارك ورموزه وسياساته، وبين الإخوان المسلمين وتابعيهم من السلفيين واخرين. يتتابع الاحداث فقد اصبحنا امام ثلاث قوي أساسية هي الاول النظام القديم المدعوم من المجلس العسكري على عكس تظاهره بأنه مع الثورة، والثاني: الاخوان المسلمون والسلفيون "تيارات الاسلام السياسي" والثالث: القوى الثورية التي تركتها جماعة الاخوان والجماعة السلفية وحدها دون غطاء أو دعم، وكانت النتيجة ان القوة الثالثة باتت بصدورها العارية في مواجهة القوتين معا وفي وقت واحد، فأعطت جماعتا الاخوان والسلفيين ظهرهما لهذه القوة تاركين لها مواجهة المجلس العسكري وحدة ومعه نظام مبارك وكذلك انفرد بهذه القوة وفي مقدمتها الشباب المصري العظيم كل من المجلس العسكري والحكومة وجماعات الفوضى التابعة لنظام مبارك.. الامر الذي ادى الى استشهاد ما يزيد على 300 من شباب مصر في مواجهات دامية في ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء ومحيط الداخلية والسفارة الصهيونية والبالون والعباسية ثم مجزرة بورسعيد مؤخرا!! ولم يجد الشباب من هؤلاء أي دعم أو مساندة، بل تركوهم وحدهم بكل اسف.. انتهت انتخابات مجلسي الشعب والشورى وحصدت تيارات الاسلام السياسي 70٪ من مقاعد مجلس الشعب و85٪ من مقاعد مجلس الشورى الامر الذي جعل هؤلاء يشعرون بالغرور السياسي والاستقواء على الاخرين والاستعلاء عليهم الى حد التجبر والتكبر، وينتهي بهم الأمر الى اصرارهم على الانفراد بالجمعية التأسيسية للدستور الذي قضى القضاء الاداري ببطلانها في العاشر من ابريل الماضي، بناء على الدعوى المقامة من القوى الثورية التي تمثل ضمير الثورة والقوة الثالثة التي استهدف الاخرون اضعافها حتى اجهاض الثورة تماما لكنهم لم يسطعوا. والسؤال هنا: ما هي المعطيات الداعمة للقوة الثالثة الآن؟ تتمثل هذه المعطيات فيما يلي: (1) الحصول على حكم القضاء الاداري ببطلان الهيئة التأسيسية للدستور في العاشر من ابريل الماضي بعد اصرار واستماتة من الاخوان والسلفيين على وجهة نظرهما في الاستئثار بالجمعية على خلفية مبدأ الأغلبية وهذا معناه تراجع قوة الطرف الثاني الذي كان شريكا في الثورة واصبح خصما لها، لصالح قوة الطرف الثالث "القوى الثورية". (2) اصرار القوى الثورية على شرعية الميدان وهي الشرعية الثورية هي الاصل، وان البرلمان هو الشرعية الفرعية من الاصل ولذلك في الوقت الذي كان يصر الاخوان والسلف "القوة الثانية" على انتهاء شرعية الميدان، بعد انتخاب البرلمان الذي اصبح هو الشرعية الوحيدة، اكتشفوا بعد الحكم وبعد تهديد مصالحهم ومكتسباتهم بترشيح عمر سليمان ان الميدان شرعية مهمة.. وبمجرد ان أعلنت القوى الثورية تنظيم مليونية 20 ابريل لرفض ترشيح الفلول في الرئاسة بادرت القوة الثانية الى النزول الى الميدان يوم 13 ابريل ودعوة القوة الثورية للحضور والمشاركة إلا انهم رفضوا ذلك. واخيرا اضطرت القوة الثانية للاعتراف مرة اخرى بشرعية الميدان واهميتها في الصراع السياسي في مواجهة المجلس العسكري بعد ان كانوا قد ظنوا ان الصفقة تسير في الاتجاه المرسوم!! ثم اكتشفوا العكس!! (3) ثبات القوى الثورية على مبادئها منذ اندلاع الثورة حتى الان، دون تغيير وخاصة بعد ان اتضحت الصورة عند التعديلات الدستورية والاستفتاء والاصرار على الدخول في عملية سياسية وهمية!! ولذلك ليس بمستغرب ان تظل الجمعية الوطنية للتغيير الحاضنة لكل جماعات الشباب والقوى الثورية ومازالت تعبر عن يقين عن ضمير الثورة ورموزها تتسم بالنظافة السياسية في الغالب، ولم تتورط في صفقات مع أحد. وهدفها الأساسي هو حماية الثورة وتحقيق هدفها. (4) إنشاء برلمان شباب الثورة من مائة شاب من مختلف التيارات. لذلك: فإن الحاجة اصبحت ماسة لبذل الجهود الحثيثة في سبيل دعم القوة الثالثة بتنظيم صفوفها وتوحيد قواها واعادة ترتيب اوراقها، واعادة صياغة خطابها السياسي في مواجهة التحديات التي تواجهها القوى الثورية، وتجميع جهود الشباب بصفة خاصة بعد ان نجح هؤلاء في تكوين برلمان شباب الثورة يضم جميع التيارات السياسية ليكون نموذجا في الممارسة السياسية ممن أغفلتهم النظم الانتخابية فاستحال دخولهم للبرلمان، وممن اغفلتهم الاغلبية عند تكوين الجمعية التأسيسية للدستور. وإزاء ذلك: اقترح تشكيل لجنة لتوحيد القوى الثورية وتنظيم صفوفها وارى ان بداية تفعيل القوة الثالثة وخلق ذاتيتها لدى الشعب المصري هي مليونية حماية الثورة واستكمال اسقاط نظام مبارك يوم الجمعة القادم الموافق 20 ابريل، هي الخطوة الرئيسية نحو بلوغ اهداف الثورة. كما انني ارى ان تدعيم القوة الثالثة من شأنه ارتفاع صوتها لاسقاط كامل لنظام مبارك "رموزا وسياسات وقواعد" والعودة الى البداية مرة اخرى بانتخاب جمعية تأسيسية للدستور تقوم على الكفاءة والتمثيل الشعبي واقرار مبدأ موافقة 75٪ كأغلبية مشروطة لاتمام كل مادة في مشروع الدستور قبل طرحه على الشعب. فضلا عن تشكيل حكومة انقاذ وطني من قيادات فنية ومستقلة، وتشكيل مجلس رئاسي مدني بالتوافق من خمسة اشخاص يمثلون كافة التيارات السياسية الخمسة تكون الرئاسة دورية حسب ترتيب الحروف الابجدية شهريا. ونحذر من استعجال سلق الدستور ونطلب وقف الانتخابات الرئاسية الي حين وضع الدستور الجديد واستكمال مؤسسات الدولة بعد ثبوت بطلان مجلسي الشعب والشورى. ومازال الحوار متصلا ومستمرا نقلا عن جريدة الأخبار