يبدو المشهد العربي خاصة، والإقليمي بما فيه الإيراني والتركي والإسرائيلي عامة، في حالة تمدد وشد وجذب بالنظر إلى حجم وعمق وتقاطع تداعيات الأحداث والتغييرات ضمن الربيع العربي، والجديد العودة للحديث عن حرب تُقرع طبولها بأصوات أعلى في الآونة الأخيرة. وهناك الجمود الكامل لعملية السلام، بينما تسعى إسرائيل بلا كلل أو ملل لتدميرها بالإعلان عن بناء آلاف المستوطنات خلال الأعوام القادمة. وأمريكا تنسحب من أكبر قواعدها في العراق وتستعد لبناء نظام أمني إقليمي خليجي جديد. وفي هذا الوقت هناك العودة للحديث من خلال تسريبات عن احتمال ضربة عسكرية ضد منشآت إيران النووية. وهناك مخاطر المرحلة الثانية من الحراك الثوري العربي في أكثر من بلد وسط نصائح من باحثين أمريكيين من أمثال ناثان براون من مؤسسة "كارنيجي" العريقة للحكومة الأمريكية بعدم تقديم نصائح للجان صياغة الدستور في مصر وتونس وليبيا، لأن نصائح واشنطن "ستكون إما نصائح سيئة أو بلا معنى". وطبعاً تجربة أمريكا في تقديم النصائح وممارسة الضغوط في صياغة الدستور العراقي الذي كرس المناطقية والطائفية والمحاصصة، كانت درساً غير مثالي وتجربة غير مشجعة. وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون أكدت في كلمة لها الأسبوع الماضي أمام المعهد الديمقراطي الوطني في واشنطن أن "أكبر تهديد للاستقرار في الشرق الأوسط ليس التغيير ولكن مقاومة ورفض هذا التغيير"، وقدمت أمثلة لمقاومة التغيير شملت كلاً من سوريا واليمن ومصر. وأكدت أن على أقوى قوة سياسية في مصر (العسكر) إعطاء إشارات مناسبة بأنهم لا يريدون البقاء في السلطة، وأن عليهم تقديم خريطة طريق والالتزام بتطبيقها. وطمأنت كلينتون في كلمتها العرب والأمريكيين بأن بلادها لديها المصادر والقدرات والخبرة الكافية لدعم دعاة التغيير الديمقراطي، وستستثمر في الديمقراطيات العربية الناشئة في سياق الربيع العربي. أما المنسق الخاص للمرحلة الانتقالية في الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأمريكية ويليام تايلر فقد أعلن في مؤتمر عُقد الأسبوع الماضي في واشنطن أن "الولاياتالمتحدة ترى في الربيع العربي أكبر فرصة في علاقات أمريكا الخارجية خلال قرن، وبالتأكيد خلال العقد القادم. إن ما يحدث مهم للغاية ونحن نرغب في عمل كل ما بوسعنا للمساعدة". وختم أن "الدول الديمقراطية ستكون حلفاء أفضل لنا". وسنفرد مقالاً خاصاً لقراءة الموقف الأمريكي من حركات التغيير العربية، وعدم ممانعة واشنطن في التعاون مع الإسلاميين في المنطقة. وفي هذا الوقت تستمر المراوحة المحبطة في اليمن ويبقي نظام صالح التسويف وتقديم الكثير من الوعود وسط جعجعة بلا طحين. ومع ذلك تبقى المبادرة الخليجية هي المخرج الوحيد الذي من شأنه أن يجنب اليمن المزيد من إراقة الدماء وإضاعة الفرص والأخطر انزلاق البلاد نحو حرب أهلية وتقسيم وتدخلات خارجية وتدويل الأزمة وتفاقم نشاط "القاعدة". أما في الشأن السوري فقد اتخذ نظام دمشق قرار التمسك بالخيار الأمني مع تجاوز عدد ضحايا ذلك الخيار الأمني 5000 قتيل. وواضح أن النظام السوري وضع نفسه في مواجهة القوى الفاعلة في النظام العالمي وأصبح في حالة عزلة. وكذلك يقف في موقف يتحدى شبه الإجماع العربي ومطالب المجلس الوزاري للجامعة العربية الذي اتخذ قراراً حاسماً أول من أمس (السبت)، لحفظ ماء وجه الجامعة العربية في شأن رفع الشرعية عن نظام دمشق وتجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية. وإلا كرست الجامعة اللا دور في الشأن العربي، وفقدت ما تبقى لها من رصيد متواضع في أعين الشعوب العربية. والمؤلم في الشأن السوري، وقلناها مراراً وتكراراً، إن النزيف سيستمر لفترة طويلة ومؤلمة، وهو ما أكده قبل أيام وزير الخارجية الفرنسي وسط ازدواجية ملفتة في معايير التعاطي مع الحراك الثوري العربي. وكأن المشهد الإقليمي المتلبد كانت تنقصه أيضاً دراما سيناريوهات إسرائيلية وتحذيرات أمريكية وأوروبية لإيران من عمل عسكري وعقوبات، لتهدد إيران "برد سريع ومدمر" يستهدف إسرائيل ومصالح أمريكا في أكثر من دولة ومكان في المنطقة، وقد جاء هذا التهديد في عطلة العيد وموسم الحج الذي مر بسلام وبلا حوادث بسبب ما تقوم به القيادة السعودية منذ سنوات من توسعة واهتمام بإنجاح موسم الحج. والراهن أن تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول البرنامج النووي الإيراني، الذي انتقدته إيران بشدة لأنه في نظرها مُسيَّس ولأن طهران كما قال الرئيس الإيراني "ليست بحاجة إلى قنبلة نووية"، مع أنه لم يوجه اتهاماً واضحاً لإيران بأن برنامجها النووي برنامج عسكري، إلا أن أخطر ما فيه هو تأكيده: "أنه بعد التأكد وتقويم شامل، تعبر الوكالة عن قلقها من احتمال أن يكون لبرنامج إيران النووي بعد عسكري، وكذلك القيام بتجارب وتطوير قدرات صاروخية"، فيما يؤكد فاتزباتريك كبير الخبراء النوويين في معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية في لندن أن تقرير وكالة الطاقة الذرية "أنهى ادعاءات إيران بأن برنامجها النووي هو لأغراض سلمية".وهكذا تبقى المراوحة قائمة ومتفاقمة في حقل الألغام في المنطقة وبشكل يبقينا قلقين ومترقبين. ولكن في المقلب الآخر ما الجديد في كل ذلك؟ لقد اعتادت شعوب المنطقة العربية وجيراننا أن نعيش على حافة الهاوية من حروب وتصعيد ومواجهات وصراخ غير مجدٍ وعسكرة وحرق للمشاعر وتهديد ووعيد. هذا واقعنا وهذا حالنا. ولكن لا أدري لماذا أشعر في هذه المرحلة بالتحديد بأنني مللت كل ذلك اللغط والعيش على حافة الهاوية. ولم أعد أجد ذلك مستساغاً، بل أراه محبطاً ومنهكاً وأعتقد أن كثيرين يشاركونني ذلك الشعور... على أمل انقشاع تلك الضبابية التي تلف المشهد الإقليمي والعربي بأقل الخسائر قريباً! نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية