خدعوه فقالوا له أنت حر في اختيار من يمثلك في مجلس الشعب، ثم فرضوا عليه نظام القوائم الذي يضطره الى انتخاب برامج حزبية لأحزاب مجهولة الاسم والهوية. وفي زمن الثورة، الذي كان يحلم فيه المواطن بعد حرمان 30 عاما بممارسة حقه في محاسبة نائبه الذي انتخبه، تمسك الرعاة الحصريون من قادة الأحزاب الجديدة والقديمة معا بالنظام الانتخابي الذي يأتي بنواب مطلقي السراح أشبه بالمعينين الذين لا علاقة لهم ولا مسئولية عليهم تجاه من يمكن أن يسموا بناخبيهم، ودون أن يدري القادة الجدد فهم مشغولون باقتناص المقعد ساروا على نهج الحزب الوطني في إسقاط معيار الشعبية كشرط أساسي لعضو مجلس الشعب هم يريدون نائبا نخبويا وليس نائبا شعبيا ليكون المجلس هو مجلس النخبة وليس مجلس الشعب. وتعميما لثقافة تعويم السلطة والمسئولية حرص ترزية القوانين الجدد على توسيع الدوائر الانتخابية للقضاء على فكرة النائب الخصوصي الذي يمكن أن يمتلك سلطة شعبية خاصة في دائرته الضيقة، ليحل محله النائب العمومي الذي يمثل دائرة تصل مساحتها في بعض الدوائر الى محافظة بأكملها، كي يشعر بأنه لا يمتلك سلطة إلا على أهل منزله.. فالقانون الذي صدر في ظل شرعية ثورية قد هيأ المناخ ليكون الفلول هم النموذج القديم الذي يحقق أعلى الأصوات على أرض الواقع وبالوسيلة التي يراها، ويبدو أنه أصبح من الصعوبة بمكان الاستغناء عن الفلول على الأقل في الفترة التي لا يستطيع فيها أحد أن يحدد الزمان والمكان الذي تقف فيه البلاد الآن.. وقد أخطأت النخبة الحزبية عندما فرضت في ظل الخوف من الفلول نظاما للانتخابات لا يصلح تطبيقه في مصر إلا بعد 10 سنوات على الأقل من قيام الأحزاب خوف النخبة مشروع في حالة واحدة وهي عدم الثقة في نزاهة الانتخابات وأنا أشك لأن عدم نزاهة الانتخابات سوف تكون طامة كبرى على مصر والمصريين وليس على الثورة والثوريين.. ربما يكون أحد أهداف القانون الحد من الاقبال الهائل على الترشح لكنه بالقطع ضرب المنافسة في مقتل وقطع الطريق على المستقبل النيابي للجيل الجديد الثائر، الذي ربما تكون لديه فرصة وأنا أشك في المقاعد الفردية التي تشكل الأقلية في برلمان القوائم لكن بشرط أن يخرج ناخب الاستفتاء الذي رد الاعتبار للمواطن المصري بعد الثورة، والذي ربما هو الآخر يكون قد شعر بخيبة الأمل وقرر عدم النزول مرة أخرى والبقاء في استراحته المفضلة التي يقيم بها منذ عقود، وهي استراحة اللامبالاة والسلبية. على الرغم من أن الحملة الانتخابية مازالت في البدايات إلا أن هناك وقائع لا تخلو من دلالة ويمكن أن تقودنا الى النهايات وهي ما يلي: في ظل اختفاء الصوت الثوري، في الشارع الانتخابي يعلو الآن صوت جديد.. شعاراته تقول: الثورة أصبحت شئونا معنوية يجب أن تشجع الناس على البناء والاصلاح وليس على التغيير والتخريب كفانا فوضى.. والبلد داخلة على مجاعة.. والفلوس يتم فرمها في ماكينات الفرم الرسمية.. وياعزيزي كلنا فلول.. أما المفاجأة المتوقعة في المشهد الانتخابي فهي ظهور شباب ثوري يطلقون على أنفسهم شباب أحزاب المجلس العسكري.. وهم يتحدثون بلباقة عن خدمات وقرارات لاقت ارتياحا كبيرا في الشارع بعد أن اتخذها المجلس العسكري استجابة لمطالبهم وفي مقدمتها القرارات الإنسانية التي أعادت الهدوء لمنطقة العتبة وشارع عبدالعزيز بعد المعركة الدموية التي اندلعت في المنطقة. على الجانب الآخر، وبعيدا عن الشارع أكاد أرى معركة حول كيفية خوض المعارك القادمة من أجل اصطناع أغلبية جديدة مازالت مجهولة الهوية حتى الآن.. لكن ما لفت نظري هو السوق الحزبية الجديدة التي تضم أصحاب الآراء الطنانة الذين يحملون مؤهلات وانتماءات وشهرة ومظهر.. لكنها مؤهلات لا قيمة لها سوى أنها تصلح للتليفزيون.. وتتجلى الانتهازية الحزبية في أبهى صورها لنشاهد أحزابا ترفع شعار إنكار الذات من أجل الوطن، وفجأة تنقلب على نفسها وعلى الوطن عندما تكتشف أنها ليست على رءوس القوائم وما أدراك من هم رءوس القوائم، هم في الحقيقة رءوس الأموال الذين يوفرون الفوز بالمقعد الرخيص لهم ولباقي أفراد القائمة.. لكن رامي لكح فجر المفاجأة.. رامح لكي أشهر من انفق الأموال على دوائر القاهرة على الاطلاق في عصر مبارك، اختار أحد مصابي الثورة ليكون على رأس قائمته الحزبية ووضع نفسه رقم 3 في القائمة.. أما المشهد العبثي الطريف فقد تجلى في هرولة قيادات الأحزاب الى المقاهي المجاورة للمحاكم التي تتلقى أوراق الترشيح لشراء مرشحين، في الوقت بدل الضائع لاستكمال القوائم الناقصة مقابل 5 آلاف جنيه للمرشح الواحد.. ولا تعليق سوى أن نقول الحقيقة المرة التي تقول: إن أعظم انجازات الثورة أنها كشفت أن النكبة في النخبة.. التنظيم الوحيد الذي لا يصح اطلاق وصف فلول عليه هو تنظيم الاخوان المسلمين، وما أدراك من هم الاخوان المسلمون، هم الذين سيكون حسابهم عسيرا يوم القيامة.. لأنهم كانوا الشماعة والفزاعة والفوبيا والذريعة لحرمان المصريين على مر العصور من العيش في ظل الحرية والديمقراطية، هم تنظيم محظوظ يحقق أعظم المكاسب الشعبية على أيدي خصومه فهو التنظيم الشعبي الوحيد الذي شعر به الشعب في عصر مبارك. هناك من اختلف مع الاخوان وأنا منهم، حينما تقاعسوا عن المليونيات التي كان لها نتائجها في تصحيح بعض المسارات والتي كان الاخوان أول من يطالبون بها، وهذا الموقف قد هز المصداقية المتوقعة لدى قيادات الاخوان الذين كان لهم دورهم الكبير في حماية الثورة.. البعض اختلف مع الاخوان وأنا منهم.. لأنهم يمارسون الديكتاتورية مع الجيل الجديد من شباب الاخوان، ويكررون بالضبط ما كان يفعله الحرس القديم في الحزب الوطني، وأنا شخصيا أرى أن خلافهم مع الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح يشكك في مصداقيتهم تجاه نموذج قيادي تتشرف به مصر حينما ينتخب رئيسا لها. ملحوظة بعد فترة وجيزة من الثورات التي أطاحت ب نصف دستة من الديكتاتوريات الشيوعية في أوروبا عام 1989 قام زعيم كوريا الشمالية كيم جونج ايل، بدعوة كبار رجال دولته الى اجتماع طارئ.. ثم فاجأ الجميع بإطفاء الأنوار داخل قاعة الاجتماعات لمشاهدة فيلم فيديو يظهر مقتل تشاوشيسكو الدموي على أيدي حشود شعبية غاضبة، وقال لرجاله الذي أجبرهم على مشاهدة الفيلم على مدى أسبوع ان نهايته ونهايتهم قد تكون وببساطة شبيهة بنهاية الزعيم الروماني اذا لم نتخذ الحيطة والحذر في التعامل مع الناس.. وقد أصاب الهوس كيم حتى ظل يكرر: سوف نقتل على أيدي الشعب.. لعله درس يكشف عن أسلوب آخر يمارسه ديكتاتور للبقاء في السلطة يعتمد على الحذر والحيطة مع الناس ولا يعتمد على البطش والتنكيل بالناس مثلما فعل ويفعل القادة العرب. مع بدء تطبيق قانون القوائم المطلقة على المحليات ومجلس الشورى في الثمانينيات طلبني محمد رشوان وزير شئون مجلسي الشعب والشورى وأمين العاصمة المقرب من السادات للقاء معه في مكتبه بالدور الأول بمجمع مجلس الشعب، وتبين أن اللقاء كان مخصصا لاجتماع مع الوزير يحضره معي فقط الزميل سمير رجب الصحفي بجريدة الجمهورية، قال رشوان إن القيادة وقع اختيارها عليكما لتكونا مرشحي الحزب الوطني في قوائم المحليات بالقاهرة.. وأعلن زميلي سمير رجب ترحيبه بالقرار والبدء في اتخاذ الاجراءات لكنني اعتذرت للوزير، ليس رفضا لتمثيل الحزب ولكن كما قلت للوزير وقد كان صديقا حميما إن المحرر البرلماني يفقد قيمته المهنية حتى ولو انضم لأحزاب المعارضة. بالطبع الوزير لم يعجبه الرد.. وقال إنني سأقول لك حكمة لن تنساها: الصحفي الذي لا يشتغل بالسياسة سوف يظل طول عمره نفرا. نقلا عن جريدة الأهرام