لاشك أن عام 2011 سيدخل كتب التاريخ كانعطافة مهمة ونقطة مفصلية، وذلك على رغم أن التاريخ في كثير من المناسبات يرفض التوقف ويأبى الانعطاف، ومع ذلك يمكن القول إن حركة تاريخية واسعة بدأت مع الثورة المصرية لتصل إلى حركة "احتلوا وول ستريت" في شوارع نيويورك، وهما أمران وإن كانا مختلفين في المكان والزمان، إلا أنهما يدللان بوضوح على العلاقة الوطيدة بين الشعوب والديمقراطية، حيث إن الاثنين يدعمان بعضهما بعضاً في علاقة جدلية، إذ لا يمكن تخيل ديمقراطية لا تخدم الشعب وإلا تحولت إلى شعارات جوفاء، وفي المقابل لا يكاد يوجد شعب يحرم من الديمقراطية والحريات الأساسية إلا ويحرم أيضاً من العيش الكريم. وقد شهدنا مطلع العام الحالي كيف انتفض الشباب في مصر داعين إلى تنظيم تظاهرة محدودة تطالب بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، لاسيما حماية الناس من بطش جهاز البوليس الذي تغول في مصر وصار يقمع الناس ويمارس التعذيب في حقهم، مدعوماً في ذلك من قبل نظام قمعي لا يقيم وزناً لحقوق الإنسان، فاستجابت مجموعات مختلفة من التنظيمات الشبابية التي تحدت القمع ونزلت إلى الشارع، لكن الطبيعة السلمية للمظاهرات الشبابية المطالبة بحقوقها المشروعة وُوجهت بعنف أهوج من الأجهزة الأمنية، الأمر الذي أدى إلى انضمام الآلاف من المصريين الآخرين إلى المحتجين وبسرعة تحولت المظاهرات الشبابية إلى مليونيات خرجت لنصرة الشباب والمطالبة بالديمقراطية. وهكذا انتقل الأمر في مصر من حركة احتجاجية كبيرة إلى ثورة حقيقية شاركت فيها مختلف الأطياف المصرية وتصاعدت المطالب من مجرد الإصلاح والديمقراطية إلى إسقاط النظام وتفكيك آلته القمعية وتطهير الدولة من الفساد والمفسدين. وفي غضون ثمانية عشر يوماً سقط نظام مبارك بعدما تفككت قاعدته الأمنية التي فشلت في مواجهة الملايين من المصريين الذين احتشدوا في ميدان التحرير وسط القاهرة. وفي نيويورك تشكلت حركة احتجاجية معظمها من الشباب الأمريكي خرجت إلى الشوارع لتحتج على الطريق الذي أخذته الديمقراطية في بلدهم والاختلالات الكبيرة في النظام الرأسمالي، وبالاعتماد على نفس مواقع التواصل الاجتماعي التي استند إليها الشباب المصري نسق المحتجون الأمريكيون فيما بينهم ونظموا مظاهرات كبيرة أمام "وول ستريت" لرمزيته المرتبطة بالنظام المالي والمشاكل الاقتصادية التي يعانيها منها المواطن. وقد اختار المتظاهرون "وول ستريت" أيضاً لأنه يضم سوق الأسهم المرتبطة في أذهان الناس بجميع القيم السلبية التي أنتجتها الرأسمالية مثل الجشع وإفراط المديرين في الحصول على التعويضات الضخمة، فضلًا عن الفوارق الكبيرة في الدخل بالولايات المتحدة. وفي غضون أيام قليلة امتدت الاحتجاجات التي أطلقت على نفسها اسم "احتلوا وول ستريت" إلى مدن أمريكية أخرى، بل تعدت الحدود الأمريكية إلى مدن غربية في أوروبا! وقد اختار المحتجون في جميع المدن طريق التفاعل مع الناس في الشارع والتعبير عن انشغالاتهم من خلال رفع الشعارات وترديد الهتافات مبتعدين ما أمكن عن العنف، كما اختاروا في كل مدينة أماكن ذات رمزية مرتبطة بالنظام الاقتصادي العالمي. وفيما عدا المظاهرات في إيطاليا التي اتخذت مساراً عنيفاً بعد مواجهات مع الشرطة فقد حافظت أغلب المظاهرات في بلدان أخرى على طابعها السلمي وحرصت على عدم تنفير أصحاب المحال التجارية في أماكن الاحتجاج. ولكن على رغم التشابه في بعض النقاط بين الثورة المصرية في ميدان التحرير والحركات الاحتجاجية في العالم الغربي فقد أصر العديد من المعلقين على نفي أي صلة بينهما، حيث أشار كاتب إسرائيلي في صحيفة "جيروزاليم بوست" إلى التباين الكبير في عدد المحتجين الذين تجاوزوا المليون في مصر ولم يتعد عددهم بضعة آلاف في نيويورك! والحال أن الفرق في عدد المشاركين لا ينفي الدور الذي لعبته الثورة المصرية في إلهام غيرها من الحركات الاحتجاجية ودفعها إلى الشارع. والحقيقة أن هناك العديد من نقاط الالتقاء بين الثورة المصرية والحركات الاحتجاجية الأخرى في العالم الغربي تتجاوز الاعتماد المشترك على التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي في التنسيق وتحديد الأهداف إلى مشاعر الظلم والإحباط المتشابهة لدى الطرفين، فخلافاً للمظاهرات التقليدية التي شهدها العالم في فترات سابقة مثل الاحتجاجات في المدن الغربية على حرب العراق في عام 2003 لم تكن الثورة المصرية ولا الحركات الاحتجاجية الأخيرة مقيدة بزمن معين ولا بحادثة محددة، كما أن كلا الاحتجاجين في مصر والغرب تحركهما مظالم كبرى ويدل على ذلك اختيار أماكن رمزية للتظاهر. دون أن ننسى أيضاً الطابع الممتد والطويل للثورة المصرية، حيث عول محتجو ميدان التحرير على طول النفس وإصرارهم على مواجهة أجهزة الشرطة التابعة للنظام، وهو ما تشترك فيه أيضاً الحركة الاحتجاجية "احتلوا وول ستريب". هذا فضلًا عن تشابه الأهداف بين المصريين الذين خرجوا مطالبين بالحرية والكرامة وتأسيس نظام ديمقراطي يقطع مع الممارسات السابقة، وبين المحتجين في أمريكا وباقي البلدان الغربية المطالبين بتصحيح مسار الديمقراطية وإرجاعها إلى أساسها الأول المتمثل في خدمة الشعب بدل الارتهان إلى جماعات الضغط والقلة القليلة من النخب الغنية، تلك المطالب التي جسدتها الشعارات المرفوعة مثل "شباب ومتعلمون لكن بدون عمل"، وشعار آخر رفعه شاب في برلين يقول "أنقذوا الشعب وليس البنوك". وقد سبق أن عبر عن هذه القيم التي ينادي بها المحتجون في الغرب "جيمس ماديسون"، الأب الروحي للدستور الأمريكي، عندما قال إن الديمقراطية لن تنجح إلا إذا خدمت القيم الجمهورية المتمثلة في إعلاء المصلحة العامة على المصالح الخاصة، وهو الأمر المفقود حاليّاً في الديمقراطيات الغربية التي انحازت إلى فئات قليلة من أصحاب الرأسمال واللوبيات على حساب الشرائح الواسعة من شعوبها. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية