الخطر الأكبر علي حريات المجتمع والافراد هو استفراد الحاكم وانفرداهم بالسلطة. والكارثة هي تركيز السلطات في يد واحدة قد يطلق علي صاحبها لقب »الزعيم الأوحد« أو »القائد الملهم « أو »صاحب النظرة الثاقبة والحكيمة« أو »ربان السفينة« الذي يتميز بقدرات ومواهب استثنائية فريدة.. أو غير ذلك من الالقاب، والي كانت تنعكس في هتاف »بالروح والدم نفديك.. يا..« والسبب في النكبات التي تعرضت لها مصر هو حكم الفرد المطلق أو تركيز السلطات في هذه اليد الواحدة.. يد الحاكم الفرد. وقد تعلمت جميع الأمم من دروس التاريخ ان الضمان الوحيد للحريات والحقوق هو توزيع السلطات، وتوازنها.. بما يحول دون الانفراد بها. ولذلك فإن النظام الديمقراطي الحق هو الذي يقيد سلطات الحاكم، ويوزع السلطات بين مؤسسات متعددة ومستقلة ومتكافئة وفعالة، دون سيطرة لأحدها أو هيمنة علي الأخري. ويتفق كاتب هذه السطور مع ما كتبه الدكتور حازم الببلاوي في كتابه »هموم سياسية« من أن الرقابة الشعبية ضرورية، وكذلك الانتخابات والبرلمانات وحرية الصحافة وتعدد الاحزاب، ولكن هذا كله - علي أهميته - لا يكفي، بل لابد من توزيع السلطات بحيث توقف السلطة.. السلطات الاخري ولا تقتصر خطورة تركيز السلطات علي الاحتكار الوظيفي، بل تنصرف ايضا الي الامتداد الزمني للسلطة.. ذلك ان عدم تداول السلطات دون قيود زمنية يشجع علي الاستبداد، من ناحية، واستشراء النفاق من ناحية أخري.. والانتخابات هي أحد مظاهر الديمقراطية، ولكنها ليست جوهرها.. وقد ينفرد الحاكم بالسلطة بمباركة من الشعب أو جزء كبير منه في بعض الأحيان. فالنظام النازي في المانيا أو الفاشي في إيطاليا - في فترة ما بين الحربين العالميتين - لم يكونا نظما غير شعبية، بل كانا يلقيان تأييدا شعبيا كبيراً، وكذلك حكومة اليابان العسكرية والامبراطور هيروهيتو. وقد اهدرت تلك النظم الغوغائية حقوق الأفراد وحرياتهم وتسببت في موت أربعين مليونا من البشر في الحرب العالمية الثانية. وتستند بعض انظمة التعصب العنصري أو الديني أو المذهبي الي نوع من التأييد الشعبي إذا انقادت الشعوب - بعواطفها - الي انواع من التطرف والتعصب التي تصبح، في نهاية المطاف وبالا علي هذه الشعوب نفسها، من وجهة نظر الدكتور حازم الببلاوي. من هنا أهمية الدعوة الي عقد اجتماعي جديد يعيد صياغة العلاقة بين الحاكم والمحكومين، بما يكفل احترام سيادة الأمة والفصل بين السلطات.. والحد من اختصاصات وسلطات رئيس الدولة.. ويظل مستقبل الحياة السياسة في مصر في مواجهة مشكلة رئيسية ألا وهي ان مقدرات هذا الوطن في يد شخص واحد.. ويبدو أن فكرة تمتع الرئيس القادم بسلطات كبيرة يقف وراء هذا العدد من المرشحين الذين يتطلعون لمنصب رئيس الجمهورية لكي يتسلطوا علينا، خاصة أن معظمهم من انصار الجمهورية الرئاسية! ولو كان الرئيس القادم بلا سلطات حقيقية لما تدفق الكثيرون الي حلبة الترشيح. وما يجري - في الوقت الحاضر - يمثل سباقا لاقتناص سلطات الحاكم.. لا أكثر ولا أقل! والسؤال المنطقي هو كيف تختار مرشحا دون أن نتأكد من ان سلطاته مقيدة بحيث لا نعود للمربع الاول ونعاني من تعسف وطغيان الحاكم الفرد؟.. ولا يكفي تحديد مدة الرئاسة لكي توفر لنا ضمانا بأن الديكتاتورية لن تعود، إذ ان عظائم الأمور يمكن ان تحدث خلال ثماني سنوات، بما فيها الانقلاب علي والدستور هو القانون الأساسي الأعلي للبلاد الذي يضع اسس ونظام الحكم في الدولة ويشكل الإطار المرجعي للعلاقة بين النظام الحاكم وبين المواطنين ويصون الحريات العامة، ويحد من سلطات الحاكم، ويحول دون هيمنة السلطة التنفيذية علي السلطتين القضائية والتشريعية ويوطد سلطة الشعب ويحكم رقابته علي شئون الحكم.. ولما كان الدستور هو الذي ينظم سلوك مؤسسات الدولة، سواء في العلاقات بين بعضها البعض أو بينها وبين المواطنين، فإنه يرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم ويرسم للسلطات العامة وظائفها، ويضع الحدود والقيود التي تضبط نشاطها، ويرتب الضمانات الاساسية لحمايتها... ذلك أنه ينظم هذه السلطات العامة في الدولة من حيث التكوين والاختصاص، ويضع الحدود التي يجب علي الدولة ألا تتعداها في علاقتها مع الجماعات والأفراد حفظاً لحقوق هؤلاء وحرياتهم. والدستور، في جوهره، ما هو إلا عقد ضمني بين جميع المواطنين. وهو لا يستمد قوته إلا من الموافقة العامة من جانب الأمة أو موافقة أغلبيتها علي الأقل.. فإذا اتفقت الأمة علي نظام، وأرادته، فإنه يجب تنفيذ هذا الاتفاق وذلك الرضا بلا عوائق. ولا يجوز ان يظل مبدأ سيادة الامة حبراً علي ورق، وأنما لابد أن يستند هذا المبدأ الي نصوص صريحة ودقيقة بحيث يصبح حقيقة واقعة يأخذ بها الجميع حتي تنشأ في بلادنا تقاليد وأخلاق سياسية سليمة.. ولم يولد حسني مبارك ديكتاتوراً، بل وجد لديه دستورا يتيح له سلطات مطلقة.. بلا حدود.. ودون ان يقابلها أي محاسبة أو مساءلة لشخصه، فهو فوق كل القوانين. فالدستور يتميز بطبيعة خاصة تضفي عليه صفة السيادة والسمو باعتباره كفيل الحريات وعماد الحياة الدستورية وأساس نظامها. ومن ثم، فإن قواعد الدستور تستوي علي القمة من البناء الفوقي للدولة، وتتبوأ مقام الصدارة بين قواعد النظام العام باعتباره اسمي القواعد الآمرة التي يتعين علي الدولة التزامها في تشريعها وفي قضائها، وفيما تمارسه من سلطات تنفيذية، والدستور هو الذي ينشي السلطات العامة الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. وتستمد كل هذه السلطات وجودها وكيانها من هذا الدستور. وكان الدكتور محمد مندور يكرر دائماً ان دستور 3291 ترك باب العصف بكل الحريات مفتوحاً عن طريق القيد الذي اخضعها له، وهو عبارة »في حدود القانون«، وهو قيد يجب ان يتحرر منه الدستور الديمقراطي الذي تتطلع اليه البلاد الآن، بحيث لا يكون هناك قيد علي الحريات العامة، إلا ما توجبه طبيعة تلك الحريات وضرورة تمتع الجميع بها دون اعتداء من أحد علي حرية الغير.. فالشيء الوحيد الذي يجب ان يحظر في مجال الحريات هو استخدام العنف لإملاء رأي أو الاعتداء علي حريات المواطنين الآخرين.. ومن الضروري الإسراع في مراجعة كل القوانين العامة لتخليصها من كل القيود علي سيادة الأمة حتي يمكن تنفيذ تلك السيادة عمليا. الجميع يتحدثون الان.. في كل شيء ما عدا ضرورة وضع كل الضمانات الضرورية للحيلولة دون عودة حكم الفرد المطلق والسلطات غير المحدودة لرئيس الجمهورية القادم.. رغم ان كلمة السر في أي ديمقراطية حقيقية نتطلع إليها هي رئيس.. بلا سلطات كبيرة حي لا تتقزم السلطات الاخري وتتضاءل خاصة التشريعية والقضائية، وحتي نجني الثمرة الكبري لثورة 52 يناير. نقلا عن صحيفة الاخبار