ليس مفهوما لماذا تأخر إصدار قانون موحد لدور العبادة لسنوات طويلة إلا إذا كان هناك من وجدوا في الاحتقان الطائفي وسيلة من وسائل السيطرة علي المجتمع بطريقة فرق تسد. فهذا قانون يرضي المصريين المسيحيين. ولا يغضب المصريين المسلمين في شئ, فضلا عن أنه يريح أي نظام حكم يستمد شرعيته من إرادة شعبه وليس من التلاعب بهذه الإرادة. ولو كان في مصر نظام سياسي يعبر عن الإرادة الشعبية حقا خلال العقود الأربعة الأخيرة لبادر إلي إصدار قانون ينظم بناء المساجد والكنائس وغيرها من دور العبادة وفق قاعدة المواطنة واستنادا إلي مبدأ حرية الاعتقاد. فالحاجة إلي مثل هذا القانون لم تظهر اليوم ولا قبل سنوات قليلة, بل منذ نحو أربعة عقود عندما حدثت أزمة الخانكة عام 1972. كانت هذه هي بداية ظهور الاحتقان الطائفي الذي أخذ يتكون تحت السطح قبلها بسنوات نتيجة تجفيف منابع المشاركة السياسية في المجتمع علي نحو أدي إلي تنامي المشاركة الدينية عبر تضخم الشعور بالهوية الطائفية. ويحدث هذا التضخم عادة مقترنا بتضاؤل أو غياب الانتماءات الحزبية والسياسية التي تجمع مسلمين ومسيحيين يتفقون علي برامج وسياسات عامة يعتقدون أنها تساهم في خدمة الوطن الواحد وتقدمه. وعندما حدث صدام بسبب تحويل مبني إداري للمسيحيين في الخانكة عام1972 إلي كنيسة, كان هذا جرس إنذار لمن يحرص علي الوطن ويريد أن يجنبه احتقان طائفي ما أن يتنامي حتي يهدد الأخضر واليابس. ومع ذلك أصم نظام الحكم في ذلك الوقت أذنيه وتجاهل نتائج تقرير اللجنة البرلمانية لتقصي الحقائق برئاسة د. جمال العطيفي. كانت تلك الأزمة هي الأولي في سلسلة طويلة من الأزمات الناجمة عن مشاكل تتعلق ببناء كنيسة أو ترميمها أو توسعتها. ولم تكن أزمة كنيسة العمرانية التي انفجرت في نهاية العام الماضي إلا نسخة من أزمة كنيسة الخانكة. ومع ذلك ظلت البلادة المقصودة في التعامل مع هذه الأزمات قائمة, علي نحو يستحيل استمراره الآن بينما تدخل مصر مرحلة جديدة في ظل ثورة25 يناير التي فتحت الباب أمام بناء دولة ديمقراطية يتمتع مواطنوها بحقوق متساوية في الواقع وليس فقط في الدستور. ولذلك بدأ النظر جديا في إصدار قانون موحد لدور العبادة, بعد أن وعدت الحكومة بإنجازه. وليس هذا صعبا بأي حال في وجود أكثر من مشروع قانون في هذا المجال. ويمكن الانطلاق من أحد هذه المشاريع, وليكن المشروع الذي أعده المجلس القومي لحقوق الإنسان عام2007( مشروع القانون الموحد لبناء وترميم وتوسعة دور العبادة). فهذا مشروع يسعي إلي تحقيق الأهداف الأساسية التي ينبغي التطلع إليها عند إصدار قانون من هذا النوع, وأولها المساواة الفعلية بين أبناء الأديان المختلفة في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية وسهولة. وثانيها القضاء علي العشوائية في مجال بناء دور العبادة أو تقديم الطلبات الخاصة بها, وحصر الجهات التي يحق لها طلب بناء أو ترميم دار عبادة. وثالثها إيجاد آلية معتمدة لحل المشاكل المتعلقة بترميم وإصلاح دور العبادة القائمة. كما أنه يحدد بدقة الجهات الإدارية المختصة بتلقي طلبات البناء والترميم ويحصرها في المحافظ والإدارات الهندسية في الأحياء والوحدات المحلية في المدن والقري. ووضع المشروع حدا أقصي زمنيا للرد علي الطلبات المقدمة إلي الجهة الإدارية, وهو أربعة أشهر للبت في طلب البناء الجديد وشهران لاتخاذ قرار تجاه طلب الترميم أو الإصلاح. وفي حالة رفض الطلب, يكون للطالب الطعن أمام محكمة القضاء الإداري في دائرة اختصاصها. ولأن هذا المشروع وضع في فترة شاع فيها اللجوء إلي محاكم غير مختصة لوقف تنفيذ أحكام قضائية صحيحة, فقد نص علي أن محكمة القضاء الإداري وحدها ودون غيرها هي المختصة بالفصل في الطعون علي جميع القرارات الصادرة تطبيقا لأحكامه, وفي إشكالات التنفيذ المتعلقة بتلك القرارات أو ما يصدر بشأنها من أحكام. ويصلح هذا المشروع أساسا يمكن البناء عليه وتطويره في أسرع وقت. ولعل أهم ما ينقصه هو وضع معايير لقبول أو رفض الطلبات المتعلقة ببناء أو ترميم أو توسعة دور العبادة, بحيث لا يكون الأمر محلا لاجتهاد الجهة الإدارية بلا ضوابط تحكمها. صحيح أن التقاضي متاح في حالة رفض الطلب. غير أن وضع معايير متفق عليها منذ البداية يساعد في نشر أجواء من الثقة تشتد الحاجة إليها. فإذا كان رفض طلب ما دون معايير واضحة قد يثير الخواطر, فقبوله في غياب مثل هذه المعايير قد لا يكون إيجابيا في كل الأحوال. فعلي سبيل المثال, يحسن التوافق منذ البداية علي المسافة التي ينبغي تركها بين المكان المطلوب بناء دار للعبادة فيه وأي دار قائمة بالفعل في المنطقة نفسها. فهذه مسألة شديدة الحساسية ينبغي أن يكون هناك معيار واضح لها ومنصوص عليه في القانون حتي لا تقل فاعليته إذا تركت لاجتهادات لا مرجعية لها. وهذا المعيار ضروري حتي نضع حدا لخلافات في تفسير القانون قد تترتب عليها خلافات تؤدي إلي استمرار الاحتقان الطائفي الذي يفترض أن يساهم هذا القانون في الحد منه تدريجيا. وربما يكون مفيدا, كذلك, وجود معيار كمي لبناء دور العبادة في المناطق الجديدة, بحيث يحدد القانون حدا أدني لعدد السكان الذي ينبغي توفره في منطقة ما لبناء دار للعبادة في حالة وجود دار أخري قريبة لا يتكبد الناس مشقة في الذهاب إليها. فالهدف من إصدار قانون يوحد إجراءات بناء دور العبادة وييسرها هو تأكيد حق المساواة وتفعيل مبدأ المواطنة علي نحو يؤمل أن يؤدي إلي إزالة الاحتقان الطائفي, وليس التوسع في إقامة مساجد وكنائس دون حاجة إليها أو بغير مقتضي. فمصر لا ينقصها اليوم الكثير من المساجد والكنائس, ولكنها في حاجة إلي الكثير من المدارس والمستشفيات والملاجئ التي ينبغي أن يتباري من يبغون التقرب إلي الله تعالي في بنائها أو المساهمة في إقامتها مع آخرين. نقلا عن صحيفة الأهرام