في يوم من الأيام كان المصريون يقدمون للعالم أرقى النماذج في الترفع والرقي في كل شئ.. كانت مصر رائدة في كل شئ جميل.. كان الفن الدور والرسالة والقيمة.. وكان الإبداع الهدف والمسئولية والغاية. وكان الساسة الإلتزام والوطنية والقدوة.. وكان الفلاح المصري مدرسة لمن أراد ان يتعلم.. وكانت المرأة المصرية حديث العالم في الصدق والوفاء والأمانة. وكان الطبيب المصري مؤتمنا في كل مكان حيث الخبرة والكفاءة. وكان الإعلام المصري صاحب الدور والرسالة يقوم على أسس من المهنية الرفيعة والإلتزام الخلاق.. كانت هذه هي أحوالنا وأحوال أم الدنيا.. كان كتاب مصر هم الجواد الرابح في كل الميادين قدرة وتميزا وثقافة.. والأن حين أجلس أمام التليفزيون الذي يلتف حوله الملايين من البشر في كل بقاع الأرض تصيبني حالة من الغثيان وأنا أسمع الشتائم وسيول البذاءات التي تندفع كالسهام فتلوث كل شئ حولها الماضي والحاضر وتدنس كل القيم الجميلة الراقية التي عاش عليها المصريون وكانت تاج الزعامة الحقيقية. ماذا حدث لنا ومن أين طفحت هذه الوجوه ومن أين خرجت كل هذه الأمراض وكيف سمحنا لأنفسنا ان تكبر بيننا هذه المستنقعات الكلامية التي لوثت النهر الخالد وجعلت أبناءه حديث الدنيا كلها؟!.. يكفي ان تجلس يوما واحدا وتراجع ما تراه وما تسمعه على شاشات التلفزيون لكي تكتشف حجم الكارثة وما وصلنا اليه.. ان الشئ المؤكد ان برامج الهواء وما يسمى التوك شو قد تراجعت نسب المشاهدة فيها أمام اللغة الهابطة التي تجري على لسان مقدميها حتى وصلت إلى الشتائم والبذاءات.. ان أقل ما توصف به لغة الحديث في هذه البرامج انها خارج حدود السلوك المترفع.. اللغة هابطة.. والأيادي تتحرك في كل اتجاه.. والأصوات صراخ في صراخ في صخب مجنون ولم يبق غير ان يخرج الضيف أو المذيع من الشاشة ويدخل على الناس في بيوتهم بأقذر الألفاظ وأسوأ اللعنات.. ان حجم الصراخ الذي ينطلق من الفضائيات يحتاج إلى آلاف بل ملايين المصحات النفسية لعلاج المواطنين الذين يقعون كل ليلة فريسة لهذه الحشود الإرهابية.. ان مصر والمصريين لا يعانون فقط من الإرهاب الدموي في الشوارع لأن الإرهاب الإعلامي يمارس أسوأ أنواع التدمير النفسي وهو يحاصر الأطفال كل ليلة وكأنها الحرب العالمية الثالثة. لقد طالبت كثيرا بوقف برامج الهواء خاصة انها لا تتمتع الآن بتأثيرها القديم لأن البرامج المسجلة تتحكم فيما يقال وما ينبغي ان يقال.. وحين تصل درجات الردح والبذاءات إلى الأمهات في قبورهن يصبح من الضروري ان يكون هناك حسم وعقاب ومساءلة.. ماذا يقال عن سلاسل السباب على الشاشات بين الضيوف وبين المذيعين بعضهم وبعض وكيف سقطت على رؤوسنا كل هذه العاهات.. هذا يشتم بأحط الألفاظ.. وهذا يأمر وهذا يتحدث بأسم الدولة ويحذر ويعاقب، ومن أين جاء هؤلاء بكل هذه البجاحة ومن اعطاهم كل هذه الحقوق؟! ان الدولة ليست في حاجة إلى كل هذه العاهات الفكرية التي أفسدت العلاقة بين الشعب ومؤسساته وأصبحت الفضائيات سلاحا من أسلحة الدمار الشامل حيث جلس رجال الأعمال وراء منصاتهم الإعلامية وكل واحد استأجر فريقا من الشتامين وفرشوا الملاية للجميع، من أعطى هؤلاء هذه الصلاحيات ان يتحدثوا باسم الدولة وباسم الشعب وهم لا يدركون ما يقولون. لم أكن أتصور ان تصل لغة الحوار الهابط إلى رجال الدين.. كيف يسمح رجل الدين لنفسه ان يقرأ القرآن للناس ويشرح آياته ثم يختم حديثه بألفاظ لا تليق من السباب والتجريح والبذاءات ان بعضهم يسئ لرموز دينية لها مكانة خاصة لدى الناس وإذا كان هناك خلاف في الرأي لماذا لا يكون بالأسباب والحجة وليس بالتجريح والشتائم، وإذا كان رجل الدين اختار الإساءة طريقا فكيف يطالب الناس بالسمع والطاعة وفي أي دين نجد هذه التجاوزات!. ان الأخطر من ذلك ان تسمع هذا السيل من البذاءات والإتهامات واللعنات على فضائيات الإخوان المسلمين الذين يوزعون كل ليلة طقوس الكراهية على المصريين عبر القارات وبأموال ملوثة الجميع يعلم من أين حصلوا عليها، هل هؤلاء هم دعاة الحق والفضيلة.. ان رجل الدين هو القدوة الطيبة والنموذج الصالح وحين تسود الهمجية لغة الحوار حتى في الحديث عن الأديان فإن ذلك يعني ان الأشياء كل الأشياء فقدت توازنها.. كيف يتحدث إعلامي لا علاقة له بالدين أو الدراسات الدينية عن رموز دينية عظيمة بإستخفاف وتطاول وبذاءة، ثم يتجرأ البعض على ثوابت دينية لا ينبغي التشكيك فيها.. لا أحد يعترض على إصلاح وتطوير الخطاب الديني ليخاطب روح العصر ولكن من له حق الحديث في هذه القضايا وكيف نسمح لمن لا يستطيع قراءة آية قرآنية سليمة ان يكون مفتيا وعالما ومصلحا دينيا.. هذا جزء من عشوائية الحوار في حياة المصريين الأن. ان استخفاف البعض من رجال الدين والإعلاميين بالرموز الدينية على شاشات التليفزيون وتشويه الأحداث والتطاول على السير جريمة في حق ديننا لن تغفرها الأجيال القادمة. إذا تركت الإعلام والفضائيات ورجال الدين كن على حذر وأنت تقترب من مستنقعات الفيس بوك والتويتر والنت ان القذائف الصاروخية التي وصلت لأسوأ درجات الإنحطاط لغة وسلوكا تجعل الإنسان يكره ذلك اليوم الذي تقدمت فيه البشرية ووصلت إلى هذه المعجزات العلمية الرهيبة، كان من الممكن استخدام هذه الوسائل في رقي العقل البشري وليس انحطاطه وهذا ليس خطأ العلم ولكنه خطيئة السلوك، على الفيس بوك تستطيع ان تقرأ وصلات من الردح والشتائم بكل الألوان واللغات حتى ان البعض فكر في وضع ضوابط لهذه الأساليب الحديثة في الهدم والتخريب. نحن أمام وقت ضائع وجهد مستباح وأمام أجيال تضيع وأفكار مريضة تجتاح كل الثوابت الأخلاقية.. انها حرية بلا مسئولية.. وحوارات ساقطة لا أحد يعرف كيف شوهت عقول الناس والأسرة بعيدة والآباء والأمهات لا يعرفون ما يجري في عقول أبنائهم وبناتهم من عوامل التدمير والتشويه، على النت ترتكب كل الجرائم ابتداء بحشد الشباب في قوافل الإرهاب وانتهاء بتشويه كل القيم التي قام عليها تاريخ الشعوب.. انها علاقة خاصة جدا بين الشباب وهذا المخلوق الجديد الذي يسرق الوقت والعمر رغم انه يمكن ان يكون عنصر بناء وتحضر وثقافة.. أفواج من البشر يحتشدون على الفيس بوك ولا أحد يعلم من أين تأتي كل هذه الشتائم والبذاءات. في نفس الطريق تمضي لغة المسلسلات التليفزيونية وقد وصلت في رمضان الماضي إلى أسوأ مراحلها حيث الضرب والسب والشتائم بالأم والأب وكامل أعضاء الأسرة.. ولو اننا شاهدنا حجم الإهانات التي وجهت إلى المرأة أما وزوجة وصديقة في هذه المسلسلات لأكتشفنا ان كل ما حصلت عليه المرأة من الحقوق قد ضاع في هذا الفن الهابط.. ان المسلسلات والأغاني وحتى الإعلانات التي تدخل كل بيت ويتعلم منها أطفالنا لغة الحديث والحوار والإختلاف تمثل الأن أسوأ أنواع التربية ان يجد الطفل المرأة وهي تهان في كل المواقف.. انها رسائل سلبية تتلقاها الأجيال الجديدة على الشاشات كل ليلة وتتعلم منها الدروس دون رقابة من أحد. أمام لغة الحوار الهابط في الإعلام وبعض رجال الدين والنت والفيس بوك والمسلسلات والأفلام انتقلت هذه اللغة إلى رموز النخبة وشاهدنا المعارك الدامية على الشاشات بين رموز الأحزاب والمثقفين وأصحاب الرأي وكانت النتيجة انقسام الشارع المصري بهذه الصورة التي لم تحدث في تاريخ المصريين من قبل.. وانتقل العنف من الحوارات إلى السلوكيات ومن الشاشات إلى الشوارع ومن حشود الأمية إلى مواكب النخبة ومن الإبداع الراقي الجميل إلى فن هابط ورخيص ووجدنا كل ما حولنا يتساءل: ماذا جرى للمصريين.. وأين ذهب زمن الفن الراقي والإبداع الرفيع.. أين أفلام السينما المصرية حين كانت صاحبة دور ورسالة وأين كتاب مصر ومبدعيها وهم يحملون المشاعل يضيئون عقول أمة ويجسدون قيم شعوب عظيمة؟ ان لغة الشارع المصري التي تشوهت عبر سنوات طويلة من ثقافة التخلف وحشود الأمية والعاهات المستديمة التي تتصدر الشاشات ورجال الدين الذين لا يفرقون بين الدعوة للفضيلة ولغة تجرح العقول والقلوب والمشاعر.. وقد يطرح هذا السؤال نفسه.. وما هو الحل وكيف ننقذ الشارع المصري من هذه اللغة الفجة التي لا تتناسب مع تاريخه وثوابته؟. في تقديري ان العلاج ممكن واننا قادرون إذا اردنا ان نتخلص من هذه الشوائب وهذه العاهات.. أتصور ان تعود برامج التليفزيون والفضائيات إلى استوديوهات التسجيل بحيث تراقب كل قناة ما يحدث فيها من تجاوزات، ان المتابعة هنا داخلية وليست رقابة ولا شك ان كل قناة حريصة على مستوى الآداء المهني والأخلاقي وهي لا يمكن ان تسمح بتجاوزات تهدد ثوابت الناس وأخلاقياتهم كما ان هذه القنوات تدرك مسئوليتها في تربية الأجيال القادمة وتوفير المناخ المناسب لهذه البراعم الصاعدة.. في حياتنا أشياء كثيرة تشوهت بأيدينا رغم انها كانت أجمل وأرقى وأرفع ما فينا ولا نلوم إلا أنفسنا. أنا لا أتصور ان يغيب دور الأزهر الشريف في متابعة ما يحدث من تجاوزات في لغة الخطاب الديني من اساءات لرموز تاريخية ينبغي ان يكون لها كل التقدير وان اختلفنا معها.. اما المسلسلات فأنا أعتقد ان درس العام الماضي وما شهده من سلبيات لن يتكرر في أعوام قادمة خاصة ان الأسواق العربية لم تعد تقبل على شراء هذا المستوى الهابط من الأعمال الفنية الرديئة.. بقيت النخبة وما حدث فيها من ترهلات فكرية وسلوكية وهي تحتاج إلى معجزة الهية حتى تسترد ما ضاع منها من رصيد تاريخي فرطت فيه. ..ويبقى الشعر مَاذا أخذتَ مِنَ السَّفَرْ.. كُلُّ البلادِ تَشَابَهَتْ فى القهْر.. فى الحِرْمان ِ .. فى قَتْل البَشَرْ.. كُلُّ العيُون تشَابَهتْ فى الزَّيفِ. فى الأحزان ِ.. فيَ رَجْم القَمَرْ كل الوُجوهِ تَشابَهتْ فى الخوْفِ فى الترحَال .. فى دَفْن الزَّهَرْ صَوْتُ الجَمَاجِم فى سُجُون اللَّيل والجَلادُ يَعْصِفُ كالقَدَر .. دَمُ الضَّحَايَا فَوقَ أرْصِفَةِ الشَّوارع فى البُيوتِ .. وفى تجاعيدِ الصَّورْ .. مَاذا أخَذتَ منَ السَّفَر ؟ مَازلتَ تَحلُمُ باللُّيالى البيض والدِّفْء المعَطّر والسَّهَرْ تَشْتَاقُ أيامَ الصَّبابَةِ ضَاعَ عَهْدُ العِشْق وانْتَحَر الوَتَرْ مَازلتَ عُصفُورًا كسِير القَلْبِ يشدُو فَوْقَ أشْلاءِ الشَّجَرْ جَفَّ الرَّبيعُ .. خَزائِنُ الأنَهار خَاصَمَها المَطَرْ والفَارسُ المِقْدامُ فى صَمت تراجَعَ .. وانتحَرْ .. مَاذا أخَذْتَ مِنَ السّفَر ؟ كُلُّ القصَائِدِ فى العُيُون السُّودِ آخرُهَا السَّفَر .. كلُّ الحَكايَا بَعْدَ مَوْتِ الفَجْر آخرُها السَّفَر .. أطْلالُ حُلمِكَ تَحْتَ أقدام السِّنِين.. وَفى شُقُوق ِ العُمْر. آخُرها السَّفَر .. هَذِى الدُّمُوعُ وإنْ غَدَت فى الأفق ِ أمطَارًا وزَهْرًا كانَ آخَرُهَا السَّفَر كُلُّ الأجِنَّةِ فى ضَمِير الحُلْم ماتَتْ قَبْلَ أن تَأتِي وَكُلُّ رُفَاتِ أحْلامِى سَفَر .. بالرَّغْم مِنْ هَذا تَحنُّ إلى السَّفَر؟! مَاذا أخذْتَ مِنَ السَّفَر؟ حَاولتَ يومًا أن تَشُقَّ النَّهْر خَانَتْكَ الإرَادَةْ حَاوَلتَ أنْ تَبنِى قُصورَ الحُلْم فى زَمن ِ البَلادَةْ النبضُ فى الأعْمَاق يَسقُط ُ كالشُّموس الغَاربةْ والعُمْر فى بَحْر الضَّياع الآنَ ألقَى رأسَه فَوقَ الأمَانِى الشَّاحِبةْ .. شَاهَدْتَ أدْوارَ البَراءةِ والنذالةِ والكَذِبْ قَامْرتَ بالأيام فى "سِيْركٍ" رَخيص ٍ للَّعِبْ . والآنَ جئْتَ تُقيمُ وَسْط َ الحَانَةِ السَّودَاءِ .. كَعْبَهْ هَذا زَمانٌ تُخْلَعُ الأثوابُ فِيهِ.. وكلُّ أقدار الشُّعوبِ عَلى الَموائِدِ بَعض لُعْبهْ . هَذا زَمانٌ كالحِذاء .. تَراهُ فى قَدَم المقَامِر والمزَيِّفِ والسَّفِيهْ .. هَذا زَمَانٌ يُدْفَنُ الإنسَانُ فِى أشْلائِه حيّا ويُقْتلُ .. لَيْسَ يَعرفُ قَاتِليهْ.. هَذا زَمانٌ يَخْنُقُ الأقمَارَ .. يَغْتَالُ الشُّمُوسَ يَغُوصُ .. فى دَمِّ الضَّحَايَا .. هَذا زَمَانٌ يَقْطَعُ الأشْجَارَ يَمْتَهنُ البرَاءَة َ يَسْتَبيحُ الفَجْرَ .. يَسْتَرضى البَغَايَا هَذا زَمَانٌ يَصلُبُ الطُّهْر الَبريءَ .. يُقيمُ عِيدًا .. للْخَطَايَا .. هَذا زَمَانُ الموْتِ .. كَيْفَ تُقِيمُ فوقَ القَبْر عُرسًا للصَّبايَا ؟! عُلبُ القمَامَة زينُوهَا رُبَّمَا تبْدو أمَامَ النَّاس .. بُسْتَانًا نَديّا بَينَ القمَامَة لنْ ترَى .. ثوْبًا نَقِيّا فالأرْضُ حَوْلكَ .. ضَاجَعَتْ كلَّ الخطايَا كيْفَ تحْلم أنْ تَرى فيهَا .. نَبيّا كُلُّ الحَكايَا .. كانَ آخرُهَا السَّفَر وَأنا .. تَعِبْت مِنَ السَّفَر .. قصيدة ماذا أخذت من السفر سنة 1986 نقلا عن جريدة الأهرام