يعود العالم الآن الى الأديان والعقائد. ونرى مظاهر هذه العودة في بلاد شتى ومناطق عدة مسلمة ومسيحية وهندوسية وغيرها. وقد تناولت دراسات عدة هذه العودة, وآخرها دراسة نشرتها فورين أفيرز في عددها الأخير. وخلصت هذه الدراسة الى نتائج من أهمها أن التدين ينتشر في العالم, وأن دور الدين يزداد في العلاقات الدولية كما في التفاعلات الداخلية لكثير من الدول, وأن العولمة تدعم هذا التطور وتوفر الوسائط اللازمة لدور جديد للدين. وإذ يحدث ذلك في الغرب, وليس في الشرق فقط, فهذا مؤشر جديد على أن النموذج العلماني الذي ارتبط صعوده بقيم عصر التنوير يفقد جاذبيته يوما بعد يوم. فقد تبين أن العقل يفسد مثلما يصلح, ويدمر مثلما يعمر. ثبت أن العقل لا يقود دائما الى العقلانية. وكان من نتيجة ذلك عودة بطيئة ولكنها مطردة الى المسيحية في بعض بلاد الغرب. ولكن الإحياء الديني الأقوى والأوسع يحدث في الشرق المسلم الذي تنتفخ هوياته الدينية في تطور يثير خلافا على إيجابياته وسلبياته ويطرح أسئلة قد يكون أهمها السؤال عن تأثيره على طبيعة الدولة في بعض بلادنا العربية والمسلمة. ومن الطبيعي أن تكون الدولة المدنية أو الوطنية التي تقوم على المواطنة وتعدد الأديان والمذاهب وسيادة القانون هي محور هذا السؤال. فالخوف على الدولة المدنية قائم والسؤال عن مستقبلها مطروح في عدد متزايد من الدول, ومن بينها مصر التي شهدت انتخاباتها البرلمانية في الأيام الماضية ما يعزز هذا الخوف. فقد حضر الدين في العملية الانتخابية على أوسع نطاق, وجرى استخدامه بكثافة على نحو بات يشكل ظاهرة مركبة تنطوي على تديين السياسة من ناحية وتسييس الدين من ناحية ثانية. وتثير هذه الظاهرة قلقا أكبر مما ظهر بين منتصف السبعينات والتسعينات حين أطل الخوف على الدولة المدنية في صورة أكثر وضوحا وأشد ضجيجا وعنفا عبر الأسلحة النارية والمتفجرات. فكلما كان التهديد واضحا, سهلت مواجهته. ولذلك أمكن مواجهة الخطر على الدولة المدنية حين أطل في صورة إرهاب يحمل شعارات دينية.ولكن الخطر الراهن ليس من هذا النوع. إنه ينتمي الى نوع آخر عرفت مصر ما يشبهه في النصف الأول من القرن الماضي, ولكن بشكل مختلف. كان ذلك عندما أغرى سقوط الخلافة العثمانية عام4291 الملك الراحل فؤاد بأن يحمل اللقب الذي بات بلا صاحب. لم يكن واضحا حينئذ لكثير من المصريين مدى التغيير الذي يمكن أن يحدث في طبيعة الدولة إذا نجح فؤاد في تنصيب نفسه خليفة. لم يدرك الخطر على الدولة المدنية إلا قسما في النخبة السياسية والثقافية. ولكن هذه النخبة في مجملها كانت مؤمنة بأن الخلط بين السياسة والدين هو نوع من الشعوذة التي تسيء إلى كليهما, على نحو ما أبلغه الزعيم الوطني الراحل مصطفي النحاس بعذ ذلك بسنوات الى مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا. كانت تلك النخبة, باختلاف انتماءاتها الفكرية والحزبية, تؤمن بدور كبير للدين في المجتمع, ولكن ليس في شئون الحكم والسياسة والدولة. كان رجالها مؤمنين متدينين من مسلمين ومسيحيين. ولكنهم كانوا في الوقت نفسه يعرفون خطر تديين السياسة أو تسييس الدين, لأن الدين مطلق ولا يصح أن يحدث خلاف عليه, بينما السياسة نسبية ولا تصلح إلا إذا كان فيها خلاف وتعدد وتنافس في سبيل المصلحة العامة. ولذلك كان سهلا على المثقفين والسياسيين الذين خاضوا معركة الدولة المدنية في ذلك الوقت أن يبددوا شبح الخلافة قبل أن يقترب. وسجل التاريخ لرجال مثل علي عبد الرازق وطه حسين وعبد العزيز فهمي وغيرهم دورهم المقدر في حماية الدولة المدنية بالرغم من الاتهامات التي تعرضوا لها خلال تلك المعركة. فقد كان سهلا اتهام من يحمل راية الدفاع عن الدولة المدنية في دينه, بالرغم من أن هذا دفاع عن الدين في المقام الأول وقبل أن يكون حرصا على دولة لكل مواطنيها لا تميز بين أبنائها بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس. فالدين هو الخاسر الأول من جراء استغلاله لتحقيق أهداف سياسية. وما أكثر الأمثلة على ذلك. فرفع شعار مثل الإسلام هو الحل يضع عقيدة الأمة وشريعتها بكل سموها في موضع اختبار لا محل له إذا لم يأت الحل المأمول.ولهذا النوع من الشعارات أثره السلبي في الوعي العام بمدنية الدولة وطابعها الوطني, مثله في ذلك مثل استغلال طقوس دينية للتأثير على الناخبين وتحويل مساجد وكنائس الى ساحة للدعاية الانتخابية, كما حدث في الأيام الماضية. وقد رصدت الأهرام في تغطيتها المميزة كيف تحولت ساحات صلاة عيد الأضحى في بعض المناطق الى كرنفلات انتخابية وزعت فيها الدعاية التي كانت لحوم الأضاحي في مقدمتها.وبالرغم من إصدار وزارة الأوقاف كتابا دوريا برقم722 في9 نوفمبر للتنبيه على أئمة المساجد بعدم السماح باستخدامها في الدعاية, فقد تحول الكثير منها الى منابر انتخابية لمرشحين من أحزاب وجماعات عدة. ومن بينهم بعض الوزراءالمرشحين الذين سعي أحدهم, للأسف, لاستخدام مكبرات الصوت في بعض مساجد دائرته للإعلان عن مواعيد مؤتمراته الانتخابية, وسمح ثان بتحويل بعض لقاءاته الى ساحة للدروشة, فلا يبقي فرق كبير بين نشاط انتخابي ومولد لأحد من يسمون أولياءالله. كما توافد بعض المرشحين على كنائس في دوائرهم لعقد لقاءات مع القائمين عليها ومرتاديها. وخرج أحدهم, وهو مرشح حزب ذو تاريخ علماني طويل, ليزعم دون خجل أن البابا يصلي من أجله!! وليست هذه إلا مجرد أمثلة على ممارسات تهدد الدولة المدنية وتسيء الى الدين في آن ما. فاحترام الدين ووضعه في الموضوع الذي يليق به لا ينقص دوره في المجتمع, بل يحفظه من أن يستغله تيار يرفع شعاره ويتلاعب به مرشحون مفلسون تخلو جعبتهم إلا من خطاب فارغ يدغدغ المشاعر الدينية. وهذا خطر على الدولة المدنية لا يقل عن أخطار سابقة هددتها, إن لم يزد. ومع ذلك يظل في ميراث هذه الدولة خطوط دفاعية تساعد في التصدي للخطر. ولكن الركون الى هذا الميراث لا يكفي بدون الإسراع بالإصلاح الذي يحرر الدولة المدنية المعرضة للخطر من أعباء تثقلها وتضعف مناعتها ويمكن المؤمنين بها من استعادة زمام المبادرة. نقلاً عن صحيفة الأهرام المصرية