أحسب أننا لا نذيع سرا، إذا ما قلنا إن المهمة السريعة التي قام بها الرئيس حسني مبارك، إلي كل من ألمانيا وإيطاليا، والتي لم تستغرق سوي ساعات محدودة في كل منهما، التقي خلالها بزعماء الدولتين، جاءت انطلاقا من الدور الرائد والمستمر الذي يقوم به الرئيس، لدعم السلام في الشرق الأوسط، وحمايته، ومحاولة إنقاذه من الغيبوبة شبه الكاملة التي سقط فيها نتيجة الألاعيب والممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وحقوقه المشروعة. ولعلنا لا نتجاوز الواقع إذا ما اكدنا إن توقيت الزيارة السريعة والمحادثات التي جرت فيها، يأتي حرصا من مصر علي بذل أقصي جهد ممكن لحشد الجهود الدولية بصفة عامة والاوروبية بصفة خاصة، للمساندة الفاعلة والايجابية للمساعي الجارية الآن للتوصل الي تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية، التي هي جوهر ولب النزاع والصراع بالمنطقة. وانطلاقا من ذلك، وفي إطاره، كانت قضية السلام علي رأس الموضوعات المهمة التي بحثها الرئيس مبارك مع المستشارة الالمانية ميركل في العاصمة الالمانية برلين، في زيارة الساعات القليلة، كما كانت كذلك في مقدمة جدول الأعمال خلال اللقاء مع رئيس الوزراء الايطالي بيرلسكوني في العاصمة الايطالية روما، خلال الزيارة العاجلة، والتي لم تستغرق في واقعها الزمني سوي يوم واحد. وكان جهد الرئيس منصبا خلال المباحثات علي حث وتشجيع القيادتين الألمانية والإيطالية علي ضرورة حفز جميع الجهود الاوروبية لدعم عملية السلام، ودفع ومساندة المفاوضات القائمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وممارسة دور أوروبي فاعل في اتجاه ضرورة تهيئة المناخ المناسب لإنجاح هذه المفاوضات، واستمرارها لبلوغ الهدف منها وصولا للتسوية الشاملة ، علي أساس حل الدولتين. وكانت ولا تزال رؤية الرئيس الواضحة في هذا الشأن إنه من المهم والضروري لتحقيق ذلك، استمرار الوقف الشامل لبناء المستوطنات، وتكثيف الجهود الدولية لمد قرار تجميد البناء في المستوطنات. ولا يخفي علي أحد من المهتمين والمتابعين لقضية السلام، انه علي الرغم من كل الآمال التي تراود العالم غربه وشرقه، وقواه الكبري والصغري، الدولية منها والاقليمية، -عدا إيران بالطبع-، في استمرار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية حتي الوصول إلي تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية تضع حدا للصراع الدائم في الشرق الأوسط،..، الا ان هذه الآمال يمكن ان تتحطم وتذروها الرياح خلال الأيام أو الساعات القليلة القادمة، إذا ما ركبت إسرائيل رأسها، وأصر رئيس وزرائها نتنياهو، علي الإعلان عن استئناف بناء المستوطنات فور انتهاء مدة الإيقاف المقرر سريانها حتي السادس والعشرين من الشهر الحالي. وكانت مصر قد أعلنت موقفها الواضح والمحدد من هذه المسألة، وأعلنت هذا الموقف في جميع المحافل وعلي كل المستويات الدولية، والاقليمية، والمحلية، بما يؤكد ضرورة استمرار وقف بناء المستوطنات، لتهيئة الأجواء المناسبة لمفاوضات إيجابية تهدف لتحقيق السلام، وانهاء الصراع. وفي هذا الشأن تري مصر أن استمرار بناء المستوطنات، أو استئناف بنائها، يتعارض تماما مع الروح الواجب توافرها للسعي بجدية علي تحقيق السلام، كما أنها في ذات الوقت تهدم الأسس الموضوعية التي يقوم عليها بناء السلام، حيث أنها تأكل الأرض الفلسطينية يوما بعد يوم، وتزيد من تعقيد المشكلة ساعة بعد ساعة، وتخلق أوضاعا غير شرعية، تتعارض مع جميع القوانين الدولية، ومباديء الأممالمتحدة وقرارات مجلس الأمن. وقد أعلن الرئيس مبارك ذلك الموقف بكل الوضوح والتحديد خلال خطابه المهم والتاريخي لحظة اعلان اعادة اطلاق المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في القمة الخماسية التي عقدت في البيت الأبيض اوائل الشهر الحالي بحضور الرئيس الأمريكي أوباما، والرئيس الفلسطيني محمود عباس والعاهل الأردني الملك عبدالله بن الحسين، ورئيس الوزراء الإسرائيلي،...، وهو نفس الموقف الذي أكده الرئيس مبارك قبل ذلك، وبعده، وخاصة في لقاء شرم الشيخ منذ أسبوعين خلال استقباله واجتماعه بكل من وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون، والرئيس الفلسطيني عباس، ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو. من هنا تأتي الأهمية البالغة، والتوقيت الدقيق للزيارة السريعة التي قام بها الرئيس ومباحثاته المهمة في برلينوروما قبل أيام قليلة من انتهاء تجميد الاستيطان، وما يحمله ذلك الانتهاء في طياته من أخطار تهدد استمرار المفاوضات، في ظل إصرار إسرائيل علي القول بأنها لن تمد هذا التجميد، وهو ما أعلنه نتنياهو عدة مرات، وكرره وزير خارجيته المتطرف ليبرمان. وفي المقابل لدينا تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي أعلن بوضوح قبل بدء انطلاق المفاوضات المباشرة، وقبل إعلانه عن القبول بهذه المفاوضات، وبعد ذلك أيضا، وطوال الأيام الماضية، بأنه لن يستمر في المشاركة في المفاوضات المباشرة، إذا ما استأنفت إسرائيل بناء المستوطنات، وتأكيده علي أن هذا الاستئناف يعني أن إسرائيل تريد نسف المفاوضات من أساسها، ولا ترغب ولا تريد استمرارها، بل إنه يعني أن إسرائيل لا تريد السلام جملة أو تفصيلا، بل ترغب في الاستيلاء علي الأراضي الفلسطينية شبرا وراء آخر، حتي لا يتبقي منها شيء للتفاوض حوله، أو إقامة الدولة الفلسطينية عليه. ويتواكب مع الزيارة السريعة للرئيس ومباحثاته في كل من ألمانيا، وإيطاليا، ويؤكد اهميتها ودقة توقيتها، ذلك البيان الذي اصدرته الرباعية الدولية للسلام في الشرق الأوسط، والذي صدر مساء الثلاثاء الماضي، وقبل ساعات قليلة من بدء جولة الرئيس، وأكدت فيه أن الاجراءات الأحادية من جانب أي من الطرفين المتفاوضين، بما في ذلك النشاط الاستيطاني لا يمكن أن تحظي باعتراف المجتمع الدولي، وطالبت اللجنة الرباعية باستمرار تجميد المستوطنات. وقد توافق مع ذلك وتزامن معه تحرك عالمي نشط يطالب إسرائيل باستمرار وقف بناء المستوطنات، شارك فيه سكرتير عام الأممالمتحدة بان كي مون بدعوته الصريحة لإسرائيل إلي تمديد قرار تجميد المستوطنات المقرر انتهاؤه يوم 62 سبتمبر الحالي، والتأكيد علي أن ذلك ضرورة لتوفير المناخ المشجع والداعم للمفاوضات. وفي ضوء ذلك كله نستطيع القول بأن التحرك المصري النشط والداعم للقضية الفلسطينية، والذي يقوده الرئيس مبارك بفاعلية كبيرة علي المستوي الإقليمي والدولي وخلال كافة الاتصالات والمحادثات واللقاءات التي يجريها مع زعماء العالم، يركز حاليا علي السعي الجاد لتوفير فرص الاستمرار والنجاح للمفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية أملا في الوصول بها إلي نيل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، في الاستقلال والعيش بأمن وسلام في دولته المستقلة ذات السيادة، والتي تقوم علي الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 7691، أي الضفة الغربية وقطاع غزةوالقدس العربية. ولمصر وللرئيس مبارك وجهة نظر واضحة في هذا الخصوص، تقوم في مجملها و تفاصيلها علي عدة نقاط أساسية. أولها انه لم يعد مقبولا ولا معقولا القبول باستمرار الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية، واستمرار معاناة الشعب الفلسطيني نتيجة هذا الاحتلال، الذي استمر منذ ما قبل منتصف القرن الماضي، وحتي الآن، وهو ما أصبح يشكل نقطة سوداء في جبين الإنسانية في الألفية الثالثة،...، هذه واحدة. أم الثانية، فهي ضرورة استغلال الزخم القائم حاليا، والتوافق الواقع بين كافة القوي الدولية، علي أهمية وضرورة التوصل لحل شامل للقضية الفلسطينية علي أساس مبدأ قيام الدولتين، وهو ما يعني دولة فلسطينية مستقلة متصلة الأطراف، علي الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس العربية، علي ان يتم التوصل إلي هذا الحل من خلال المفاوضات الجارية، حاليا وأن يتم ذلك خلال عام من الآن، وهو ما يعني ضرورة وجود سقف زمني محدد للتوصل إلي التسوية النهائية. ونأتي إلي الثالثة التي تري أن تعطيل التسوية الشاملة والعادلة للقضية الفلسطينية، تزيد من معاناة الشعب الفلسطيني، وتنشر حالة من الإحباط واليأس لدي الشباب، وتشيع مناخا مواتيا للعنف، وتهدد كافة المنطقة بموجات عاتية من الإرهاب لا يقتصر خطرها علي الشرق الاوسط فقط، بل تمتد إلي تهديد العالم كله. وفي هذا الإطار فإن مصر تري إن الوقت قد حان الآن كي تقوم كل القوي الدولية ،سواء الولاياتالمتحدةالأمريكية، أو اللجنة الرباعية أو المجموعة الأوروبية، وغيرها بما يجب عليها القيام به لضمان استمرار المفاوضات الجارية، وعدم توقفها أو فشلها نتيجة إصرار الجانب الاسرائيلي علي وقف تجميد المستوطنات، ورفض تمديد هذا التجميد، وهو ما يدفع لوقف التفاوض، بما يؤدي إلي الدخول مرة أخري في دوامة الفشل، ويدفع بالسلام للسقوط في غيبوبة جديدة قد لا يفيق منها علي الإطلاق. * نقلا عن صحيفة الاخبار