«رجعونا مصر» جملة ظل يرددها أب يهودي من علي ظهر مركب صغير قديم متجه من الإسكندرية إلي فرنسا.. «رجعونا مصر» ستظل تتردد داخل عقلك كما ظل يصرخ بها بعد أن وقع ومعه عائلته علي استمارة «خروج بلا عودة » تعهداً منهم بأن يغادروا مصر وعدم العودة إليها أبداً، تقول الابنة معلقة علي هذا الموقف «وفجأة، أصبح الأجانب غير مرحب بهم في البلد الذي كان معظمهم يشعرون فيه شعوراً عميقاً بأنه وطنهم».. كتاب «وقائع خروج أسرة يهودية من مصر» تسحيلي تشوبه كثير من الدراما للابنة الصغري والتي كانت في السادسة من عمرها حينها. هي وقائع تسرد حياة الأجانب في مصر وقت أن كانت القاهرة قبلة لجميع الجنسيات وما تحمله من ثقافات ولغات مختلفة كلها تمتزج سوياً في ليل القاهرة في المطاعم والبارات والملاهي الليلية والمقاهي والشوارع، هي قاهرة ما قبل عام 1952 مما يبرر كره المؤلفة المنطقي لحقبة حكم نظام جمال عبدالناصر والتي أممت العديد من أسهم والدها في شركات متعددة وأسهمه في البورصة أيضاً ومطاردته النظام للأجانب والاشتباه في علاقاتهم بالسوفييت والشرق أوروبيين بشكل عام، في عهد جنون الاضطهاد لنظام اتسم بجنون العظمة.. هي قاهرة «عاصمة العالم» ال«جزء من باريس» محبوبة بطل الحدوتة «ليون» الأب اليهودي، قاهرة ستشتاق لها، بتسامحها الديني والتعددية الجنسية والدينية لمجتمع غريب في نسيجه اتفق علي حبها وأجبر علي تركها. الأب «ليون» والذي كُتبت في بطاقة هويته في باريس بعد خروجه من مصر، «جنسية غير محددة» وهي كلمة قد تبدو جافة وروتينية ولكنها تترجم بشكل قاس حال الأجانب بمن فيهم من يهود و«ليون» وعائلته. بالتأكيد ستستغرقك التفاصيل الخاصة بحياة الأب العابثة ما قبل الزواج بين البارات والمطاعم وعلاقاته بالمسلمين والمسيحيين وبالأجانب حتي بالإنجليز وحرصه علي أناقته وأسلوبه اللبق.. قد تضحك من مبالغة الأب في حكاياته عن علاقاته النسائية خاصة فيما يتعلق بعلاقته ب«أم كلثوم» والتي لم تصدقها الابنة نفسها. كذلك عادات اليهود وتعبدهم وطريقة معيشتهم، وقع أسمائهم والصور المصاحبة لبعض فصول الكتاب الملتقطة بالأبيض والأسود منذ بداية الأربعينيات وحتي الصورة الملتقطة ل«لوسيت» وأبيها «ليون» علي ظهر مركب خروجهم من مصر عام 63، صورة مهزوزة مأخوذة بكاميرا رخيصة تعبر عن واقع اللحظة المؤلمة التي عايشتها الطفلة بجوار أبيها. هو كتاب حب وشوق، حب لمصر قبل الخروج وشوق لها منذ تحرك المركب من علي رصيف ميناء الإسكندرية، شوق تعبر عنه حقيبة ظلت مغلقة طوال فترة إقامة الأب بباريس وبعدها، حقيبة أصر علي تأهبه من خلالها للعودة للوطن، كتاب يحمل العديد من «الحكاوي» عن شخصيات غنية بأحداثها وتفاصيلها مثل جدتها لأبيها «ظريفة» القادمة من سوريا حلب، بتراثها العربي اليهودي، حتي ذكريات الطفولة الخاطفة كال«فلاش» عن شخصيات مثل جارتهم «المسلمة الحسناء» أو عن الأماكن مثل بار النيل هيلتون وشارع الملكة نازلي كلها ستدفعك للحنين لقاهرة الخمسينيات. استعداد العائلة للخروج من مصر من أكثر الفصول تشويقاً وحكايات خروج العديد من اليهود وتهريبهم لممتلكاتهم خاصة المجوهرات، حيث «لم يكن مسموحاً أن تخرج من البلاد فقد كانت القوانين من الصرامة والشدة لدرجة إجبار النساء علي ترك خواتم خطبتهن»! وهو ما جعل بعض الأسر كما تحكي «لوسيت» تهرب حليها ومجوهراتها في الملابس المصنعة يدوياً في حشوات الأتاف وتحت الأزرار، حتي إن أبيها كان قد قام ثم تراجع فيما بعد بتهريب بعض قطع ذهب وخاتم زواج أمها في علب المأكولات المحفوظة.. تراجع خوفاً من رجال الجمارك، كذلك حركة البيع المحمومة التي قامت بها العائلة لتحويل كل نقدهم إلي قماش أو ملابس أو طعام محفوظ يكشف طبيعة العلاقة بين الأجانب وبين السلطات. الكتاب رغم أنه يستدرجك للتعاطف والحزن والشوق لطبيعة الناس وطبيعة القاهرة المتسامحة زمان .. إلا أنه رغم عنك يجعلك تتساءل عن كم فلسطيني سيكتب صفحات بحجم الكتاب وأكبر عن وقائع طرده من بلاده أيضاً؟