غريب هذا العالم، وغريب هذا الإنسان، والأغرب هذا الوطن. نعيش في عالم مليء بالمتناقضات، ونبحث عن كل ما يُعقد حياتنا ويملأها بالتعاسة. ندعي الإيمان ونبتعد عن وصايا الله. ندعي المثالية ونملأ الحياة فساداً. ننادي بالحب بين الناس وتملؤنا الكراهية والحقد والغيرة. ندعي الرغبة في التغيير ونقف حُراساً علي الواقع لنكرسه بكل أخطائه. فهل أصبحت حياتنا أقرب إلي شخابيط الورق غير المفهومة. تنتابني منذ فترة حيرة كبيرة في كل ما يحدث حولي، ورغم أنني ضد المطلق في الأحكام، لأن الله هو الوحيد المطلق في هذه الحياة، فإنني أقول كل ما يحدث حولي من كثرة ما يحدث وتكراره. والحيرة التي تنتابني هي أنني إما من كوكب آخر أو أن السواد الأعظم ممن أراهم حولي مرفوعين دائما من الخدمة، ولا ينصح بالاتصال بهم. فسمة الحياة هي التطور والتغيير للأفضل، ولكن في مصر قلما تجد من يرغب التغيير من ناحية أو من لديه القدرة علي التغيير من ناحية أخري. وهذه أمثال علي ما أفكر وما يحيرني: الحب مثلاً صفة ومشاعر تنادي بها الأديان السماوية، حتي إن المسيحية تنادي بأن نحب أعداءنا ونبارك لاعنينا ونحسن إلي مبغضينا ونصلي من أجل الذين يسيئون إلينا. ولكن هل يسير البشر كما يريد الرب؟! هل نحب حتي أصدقاءنا، حتي نفكر خيراً بأعدائنا؟! هل نتحمل من أحد إساءة حتي نحسن إليه؟ هل تستوعب قلوبنا ومفاهيمنا معني الحب الحقيقي الذي ينبغي أن يسود بين البشر؟ للأسف حتي الحب أصبح.. خارج نطاق الخدمة.. فتارة تجد قلوب من حولك مليئة بالحقد وتارة بالغيرة وتارة بالمؤامرات. ويا ويل من أعطي له الله بعض المواهب والقدرات وأصبح إنساناً ناجحاً ومتميزاً في بلدنا، فسيواجه هذا الناجح كل سُبل الحروب للنيل منه، إما بعدم إعطائه فرصة من أساسه أو بإطلاق شائعات مُغرضة حوله، أي البحر من خلفه والعدو من أمامه وللأسف.. أصبح اللاحب هو القاعدة والحب هو الاستثناء. وأحيانا أتساءل: هل تربينا بعادات وتقاليد خاطئة؟! هل تعلمنا منذ نعومة أظافرنا أن الحب حرام وعيب وما يصحش؟! حتي لو كان حب شاب وفتاة، فقد طغي علي باقي مفاهيم الحب. ثم لماذا نحرم حب الشاب والفتاة، وكل التجارب من حولنا تؤكد أن الزواج التقليدي وزواج الصالونات أدي إلي تفاقم أرقام حالات الطلاق؟ ألم نقف مع النفس وقفة ونتأمل إننا توارثنا عادات بالية وتقاليد متخلفة أدت بنا إلي ما نحن عليه؟ ولا إحنا حافظين مش فاهمين؟! .. خذ عندك مثالاً آخر، أنه لم يعد لدينا «قدوة» نحتذي بها أو يحتذي بها الشباب من أين يأتون بهذه القدوة، إذا كان رب البيت بالدفِ ضارباً؟! فالأب يُنهي ابنه عن الكذب ويصطدم به الابن في أكثر من موقف بأنه كداب كبير. والمعلم ينهيه عن الخطأ وقلة الأدب والتدخين، وتسقط هيبته عندما يمد يده للطالب في درسه الخصوصي ويجد حاله متدهورة، فلم يعد من ضمن أحلام الشباب أن يصبح معلماً عندما يكبر. ويخرج الشباب من الجامعة ليجد أستاذ الجامعة ذا دخل محدود وحال المثقفين والعلماء لا يسر عدواً ولا حبيباً.. أما الفاسدون وأصحاب التهليب وتجار المخدرات ومطربو الميكروباصات هم أصحاب المال والشهرة وفيللات مارينا! فمن أين يأتي الشاب بقدوته سوي هؤلاء؟! من أين يأتي، والرموز تتساقط رمزاً تلو الآخر.. فمن عضو برلماني مرتش إلي تاجر مخدرات إلي «قليل الأدب». أو رجل أعمال أخرج لسانه أمام جمال فنانة لبنانية أو ثرية عربية وهو جمال صناعي.. «الحياة كلها سليكون»، وأخذ يعوض نقص رجولته بمصاريف باهظة لإغرائها مالياً ثم تورط في قضية قتل أو نصب أو غيره. أو عالم جليل كالبرادعي له مكانته الدولية، وينشد التغيير لمصر، فما أن جاء بمنهج علمي وديمقراطي لهذا التغيير حتي فُتحت عليه فوهات أقلام.. «حُراس الواقع» وأمطروه هجوماً لا مبرر له. من أين يأتي الشباب بقدوة، والحياة متخلبطة من حوله. ثم انظر إلي حال المرور وحال الثقافة والفن، فإن أردت أن تعرف حضارة دولة راقب سلوك مواطنيها في المرور، وإن أردت أن تقيس مستوي ثقافة العامة انظر إلي النماذج الناجحة في الفن والفنانين «إن جاز التعبير». أما عن سلوك الشعب المرورية فحدث ولا حرج مليئة بالغل والكراهية وتخطي حقوقك والتدني إلي أدني من الحد الأدني من السفالة، ومحاولة أخذ مكانك ومحاولة مضايقتك، وكأن كل مواطن نازل من بيته وبداخله «نية مُبيتة» لمضايقة الآخرين.. وبدون سبب أو ذنب لهؤلاء الآخرين. وانظر لحال الثقافة وحال المثقفين تجد بيوت الثقافة في المحافظات أصبحت خرابات مهجورة ومسارح القطاع العام تراجعت، وساد «الهلس»، وسادت الكلمات المُسفة في الأغاني، وكليبات البورنو التي تملأ قنوات الأغاني، وممثلين في موقع الكومبارس أخذوا صفوفاً أولي بسخافتهم وتقل دمهم واستهبالهم علي الشاشة. هذه هي حضارة مصر وثقافتها. الحياة من حولي مليانة شخابيط وما حدش عارف ح نلاقي بر الأمان بعد كده ولا لأ، الشعب المصري اختلف وامتلأ بسواد من داخله ويظل التساؤل قائماً كما طرحه صلاح جاهين قبل ذلك في رباعيته: نوح راح لحاله والطوفان استمر مركبنا تايهه لسه مش لاقيه بر آه م الطوفان وآهين يا بر الأمان ازاي تبان والدنيا غرقانة شر عجبي