ركض مبروك مع الراكضين يختبأ من النار المنهمر عليهم كالمطر من كل اتجاه، توارى مع الناجين خلف سور مدرسة عمرو بن العاص في مدينة حمص، الجدار مهدّم، والأسقف على الأرض، ولا شئ في مكانه أو كما كان، وهو ومن معه ينتظرون توقف القذائف، نظر إلى السماء وقال في نفسه: متى تفرجها علينا يا رب؟ أغمض عينيه وهو يدعو الله أن ينجيه من هذا العذاب المستمر، رأى من بعيد طفل يبكي بحرقة، وقد جثا على ركبتيه أمام أشلاء أبيه وأمه اللذين قتلا إثر إصابتهما بإحدى القذائف، ولم يجرؤ أحد على مد العون له، فالكل يريدون النجاة بحياتهم، بعدها بساعات توقفت زخات الرصاص وانطلق الجميع كل إلى بيته، عاد مبروك غير مصدق إلى منزله الصغير. استقبلته أمه بلهفة فرحة بنجاته، ففي حمص هذه الأيام الخارج مفقود والعائد مولود، قال لها بصوت غاضب: إلى متى يا أمي يُقتل المسلمون في كل مكان؟ إلى متى؟ وتركها حانقا ليعتزل في غرفته، متفكرا فيما آل إليه حال المسلمين في كل مكان، ولا أحد يكترث بمقتل المئات بل الآلاف منهم كل يوم في شتى بقاع الأرض، في سوريا وفلسطين وبورما، وفي العراق وليبيا وأفغانستان، تساءل بصوت مخنوق: هل ماتت الإنسانية؟ أم إن المسلمين لا يعتبرون من بني الإنسان؟ لماذا نقتل في كل مكان منذ عقود ولا أحد يكترث بموتنا؟ وكأننا حيوانات تنفق لا قيمة لها ! بل إن الحيوانات تنال معاملة أرقى، وقد تجد من يحزن عليها، نظر إلى السماء من نافذة غرفته: لماذا خلقتني مسلما يا رب؟ لماذا لم تخلقني مسيحيا أو يهوديا، لأنعم بحياة رغدة وألقى معاملة إنسانية؟ هل سيكتب علي الشقاء طول عمري لأنني ولدت مسلما؟ أنا أصلي وأصوم منذ صغري، وأدعوك يا رب في صلاتي دائما، بنصرك لنا وفرجك علينا، متى هذا النصر.
أين هو؟ أغمض عينيه يحبس دموعه بين جفنيه، لكنها فرت رغما عنه، مسح دموعه حانقا، ووقف وقد انتوى أمرا في سره، واتجه إلى مكتبه الصغير بحث عن جواز سفره، فتح صفحاته ابتسم ابتسامة باهتة وقد اطمئن أن تأشيرة الدخول إلى أمريكا ما زالت سارية، تذكر حين تقدم بطلبها منذ سنة ليذهب إلى أخيه الذي يقيم هناك منذ سنين، ولم تسنح له الفرصة آنذاك، حدث نفسه وقد شعر ببعض السرور، ها قد حان الوقت كي أرحل عن هذا البلد.
لا أعرف كيف سأترك أمي؟ لكني سأقنعها بوجوب ذهابي، خرج من غرفته يبحث عن والدته، كانت تجلس كعادتها على كرسيها المفضل وفي يدها مسبحة، اقترب منها واجما، تنهد بعمق ثم قال: لقد انتويت السفر إلى أمريكا قبل أن تنتهي مدة التأشيرة، سأذهب إلى حسين أخي الأكبر، هل ستأتين معي يا أمي؟ نظرت إليه وشفتاها تتمتمان بالدعاء، ثم قالت بصوت حزين: لا يا ولدي إذهب أنت، فأنت لا زلت شابا، أما أنا فسأموت هنا وأدفن هنا، ولا تحمل همي فلي رب اسمه الكريم، نظر إليها وقد علت شفتيه ابتسامة باهتة، وقبل يديها قائلا بصوت هامس: أطال الله عمرك يا أمي، ولكن لن يطمئن قلبي أن أدعك وحيدة هنا، أرجوك يا أمي أن تقيمي مع أختي هاجر فهي أرملة وستفرح بك جدا، هزت الأم رأسها وهي تقول: حاضر يا ولدي، سأفعل إن شاء الله، لا تشغل بالك بي.
مدت يدها إلى صندوق تحت سريرها، أخرجت منه صرة صغيرة، وقالت لابنها بحب: هذا بعض الذهب الذي أهداه لي والدك رحمه الله، خذه يا ولدي، كي تستعين به على غربتك، مد يده بخجل و أمسك بالصرة الصغيرة يطالع محتوياتها وقد برقت عيناه ببهجة غريبة، قبل يد أمه وهو يخفي الصرة بلهفة في جيبه، ثم قال لها: سأبدأ منذ الغد بالاستعداد للسفر، تمتمت شفتا الأم بدعاء صامت، واستدارت لتخفي دموعها عن ابنها.
حطت الطائرة في مطار واشنطون، قفز مبروك من مقعده ليكون أول الخارجين إلى الحرية، كما حدث نفسه، تذكر كذبته الصغيرة على أمه عندما قال لها سيكون حسين في استقبالي، مشى وحيدا ينتظر وصول حقيبته، توجه إلى مكتب الاستعلامات يستفسر عن أقرب فندق، ركب سيارة أجرة، وصل بعد ساعة وضع حقيبته في الغرفة ثم توجه إلى موظف الاستقبال في الفندق يسأله عن أقرب كنيسة، سار إليها بنشاط غريب، وقد عقد العزم على تنفيذ ما انتوى.
سار بخطا هادئة نحو قس يجلس في ركن قاعة الكنيسة، حياه بالإنجليزية التي يجيدها، وقال له وفي عينيه لمعة غريبة: يا أبت.. أريد أن أتحول إلى المسيحية، ابتسم القس مرحبا به وسأله عن اسمه وعن سبب تحوله للنصرانية كعادة القساوسة، قال له: أريد أن أعيش إنسانا.. لا أريد أن أكون في مرتبة أقل، ابتسم القس قائلا: هل أنت متأكد يا مبروك؟ قال الشاب بثقة: نعم يا أبت، أنا واثق من قراري ولن أغيره أبدا، قل لي ماذا علي أن أفعل؟ نظر إليه القس مليا يتفرس في وجهه، ثم قال بعد برهة: عد إلي غدا في مثل هذا الوقت، وسأخبرك، فكر جيدا قبل اتخاذ مثل هذا القرار يا بني. حسنا يا أبتي سأعود إليك غدا، وأكمل بثقة: لقد فكرت جيدا، أراك غدا.
عاد إلى فندقه واستلقى على سريره يستعجل الساعات كي يخرج عن دينه الذي أشقاه، غفا بعد دقائق وقد استراحت نفسه لما آل إليه قراره، توجه في اليوم التالي إلى نفس الكنيسة، وجد القس جورج واقفا وبجواره بعض القساوسة، اقترب منهم وحياهم بصوت واثق، أحاطوا به يسألوه عن سبب خروجه عن دينه، أجابهم بصوت جهوري: أريد أن أكون مثلكم من بني الإنسان الذين لا يقتلون كل يوم لأنهم مسلمين، أريد أن أعيش وأن أموت كإنسان، وإن لم تقبلوا بي مسيحيا، سأذهب إلى أقرب معبد يهودي كي أخرج عن ديني.
فما قولكم؟ نظر القساوسة إلى بعضهم البعض، وقد علت وجوههم علامات الاستغراب فهذه هي المرة الأولى التي يرون فيها من يخرج عن دينه لهذا السبب، تقدم كبيرهم قائلا وقد علت وجهه ابتسامة عريضة: تعال معي، تبعه مبروك إلى حيث الماء المقدس، باركه القس وهو يصب الماء على رأسه ثم مسح بيده على جبهته و شعره، وهو يتمتم ببعض الكلمات، ثم قال له: ماذا تحب أن يكون اسمك يا بني؟ قال له بثقة: أحب أن يكون اسمي باراك، قال له القس: أهلا بك أخا في المسيحية يا باراك.