هى الدنيا إذن، تلك الدنيا التى اختلط شأنها مع الدين، فإذا بالبعض يمارس الطموحات الشخصية ويسعى بالناب والحافر للمكاسب المالية والمجد والرفعة وعلوّ الشأن، ثم يقوم بوضع كل ما سبق فى غلاف من الدين والانتصار للإسلام، ولا مانع من قليل من «مصريتنا وطنيتنا حماها الله»، ليكون الناتج دستورا «بما لا يخالف شرع الله»، فهل كنا ننتظر بعد ذلك أن يقدم لنا هؤلاء مسودة دستور ترضى الله والرسول وتبعث الفرحة فى قلوب المصريين المناكيد؟ أنا شخصيا لم أكن أنتظر، لذلك لم تفاجئنى موضوعات الإنشاء التى قالوا عنها إنها مسودة دستور، هذا هى أقصى ما يستطيعون، وأقسى مما نتحمل. تبدأ المادة الأولى الخاصة بمصر كأنها صيغت بعد فترة احتلال تعرضت له مصر، وكأننا فى فلسطين مثلا وهناك من يشكِّك فى حقنا فى أن نحكم أنفسنا، فتنصّ المادة على أن «جمهورية مصر العربية دولة مستقلة ذات سيادة وهى موحدة ولا تقبل التجزئة»، «مستقلة وموحدة وذات سيادة» يا سادة لا ترد فى دستور لمصر أبدا، وما ينبغى لها أن ترد فى دستور لدولة ذات عراقة كان لها دستور وقت أن كان بعض الدول لم يولد بعد! هل هناك من يثير ترهات حول سيادتنا على بلادنا؟! هل هناك عملاء يشككون فى أننا حصلنا على استقلالنا منذ ستين عاما أو أننا ما زلنا تحت وصاية بريطانيا العظمى ونتبع جلالة الملكة، وما فتئ اللورد كرومر يزورنا بين الفينة والأخرى ليفرض سطوته علينا؟! أم أن المسألة «حشو كلام» والسلام؟! ما هكذا تصاغ الدساتير وما هكذا نقنن هُوِيّتَنا.
الفقرة الثانية من المادة الأولى أشد وأنكى، فهى عبارة عن خطاب شكر وتقدير، ولا يمكن أن نعدها مادة دستورية أبدا، إذ تنص تلك المادة المأسوف على صياغتها على أن «الشعب المصرى جزء من الأمتين العربية والإسلامية ويعتز بانتمائه لحوض النيل والقارة الإفريقية وامتداده الآسيوى»، يعتز بانتمائه لحوض النيل والقارة الإفريقية وامتداده الآسيوى! ألم يخبرهم أحد أن كلمات الاعتزاز والشكر لا ترد فى الدساتير؟ هل تصنع مصر دستورا لتقوم بتصديره إلى دول حوض النيل؟ وهل مشكلة النيل ومصبَّاته وسدوده سيتم حلها عندما نقدم هذه المادة لإثيوبيا ونحلف عليها بالعيش والملح لكى يتم حل مشكلات السدود وحصتنا من المياه؟! الحقيقة أن المسألة عند بعضهم هى -كما قلت- «حشو كلام»، وعندما أعوزتهم الحيل ولم يجدوا وسيلة يمدون بها اعتزازهم إلى أوروبا وأمريكا وضعوا فى عجُز المادة عبارة «ويشارك بإيجابية فى الحضارة الإنسانية»! يا أسفى على الدستور! مجرد كلام ليس له أى قيمة من ناحية التشريع، فالدستور الذى هو فى المقام الأول موجه إلى المشرع كى لا يخالف أصوله عند التشريع تَرِدُ فيه مواد لا يمكن أن يكون لها مردود تشريعى.
ولأن الناحية الإنشائية غلبت على الإخوة الإخوان وتابعيهم فى اللجنة التأسيسية للدستور فقد وضعوا مادة خطيرة هى المادة «78» التى تنص على أن «الادخار واجب وطنى تحميه الدولة وتشجعه وتنظمه»، الحقيقة لم أفهم المغزى من مادة الادخار هذه، هل يخشى المشرع الدستورى من مشرع قانونى يضع مادة قانونية تحض على الإنفاق تحت شعار «أنفق ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب»، أم أن حالة من الوجد انتابت المستشار الغريانى فصمم على وضعها عملا بقول الله سبحانه «إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين»؟ ومع الادخار كان يجب وضع مادة عن أن النوم المبكر مفيد للصحة، وغسل اليدين قبل الأكل وبعده واجب وطنى.
ومن باب «التكرار يعلّم الشُّطَّار»، والشُّطَّار كما هو معروف لغةً جمع «الشاطر»، فإن مسودة الدستور عمدت إلى التكرار حتى نستطيع حفظ المواد بسهولة، فالمادة الثامنة تنص على أن «تضمن الدولة الأمن والطمأنينة»، ثم ما يلبث المشرع الدستورى اللبيب صاحب الفراسة أن يعيد هذا التعبير مرة أخرى خشية من أن لا ينتبه المشرع العيِىّ بطىء الفهم، فتنص مسودة الدستور فى المادة «58» على أن «الحياة الآمنة حقّ لكل إنسان تكفلها الدولة لكل مقيم على أراضيها».
المادة الحادية عشرة وضعها بلا شك رئيس لجنة التعليم فى البرلمان الباطل، إذ إنها تنص على أن الدولة يجب أن تعمل على تعريب التعليم! هذه مادة فى الدستور تتحدث عن تعريب التعليم، ما معنى هذا؟ معنى هذا ببساطة أن الدولة ملزمة دستوريا بأن يكون التعليم فى كل مراحل التعليم باللغة العربية، فلو صممت كلية الطب على الاستمرار فى تدريس الطب باللغة الإنجليزية فمن اليسير على أى طالب فاشل أن يرفع دعوى بعدم دستورية قانون الجامعات الذى يُلزِم أن تكون دراسة الطب باللغة الإنجليزية، ونفس الأمر فى كل العلوم، لم يضع الأخ واضع هذه المادة فى اعتباره أنه لكى نقوم بتدريس المواد العلمية باللغة العربية فإننا يجب حينئذ أن نكون فى قمة العالم من الناحية العلمية.
وللتزيد والفذلكة وضع المشرع مادة مستقلة هى المادة «61» عن أن «الرياضة حق للجميع»! أفهم أن يكون هذا عنوانا لبرنامج تليفزيونى للرياضى المرحوم رياض شرارة، لكن أن تكون هذه مادة فى الدستور فيا لخيبة اللجنة التأسيسية برئيسها ولجانها، أولئك الذين لا يعرفون معنى الدستور وكيفية صياغة مواده، وبذلك يكون الإخوة من الإخوان وتابعيهم قاموا بنقل التعليمات التى كانت توضع للتلاميذ فى الغلاف الخلفى للكراسات أيام الستينيات، وما أدراك ما الستينيات!
وما دمنا ذكرنا الستينيات فإن بعض المواد فى المشروع لا علاقة لها بالواقع الاجتماعى الذى نحياه، حتى إننى أظن أن من وضعها أفراد ما زالوا يرتدون الطربوش ويعيشون فى خيالات عهد الملكية، ويتصورون أنهم يضعون دستورا شبيها بدستور 1923 فيضعون المادة رقم «12» التى تنص على أن «إنشاء الرتب المدنية محظور»، كأن المشرع سيخرج ذات ليلة ليضع مادة تعيد لنا رتبة الباشا والبك، لذلك خاف المشرع الدستورى وأغلق عليه هذا الباب اللعين!
ويبدو أن الخيال امتدّ بالأخ صاحب الطربوش فوضع المادة رقم «71» التى تحرم وتحظر الرق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كأننا نعيش فى عهد الرقيق، حيث يذهب الأخ ليشترى عددا من الإماء ليستمتع بهن! فانتبه الأخ الإخوانى الدستورى لهذه الآفة وقام بحظرها! أى رق هذا الذى تحظرونه يا سادة؟ ألا يكفيكم المواد التى تتحدث عن حرية الإنسان وكرامته فوضعتم مادة تدخل فى باب النوادر الساخرة؟
ولأن الرغبة فى الحشو والإنشاء والرغى غلبت على من وضعوا تلك المسودة فقد أفقدوا الدستور معناه، والحقيقة أنهم فعلوا ذلك لأنهم لا يعرفون الفارق بين الدستور والقانون، لذلك فإنك عندما تنتقل من مادة إلى أخرى ستجد أن «اللغو» هو السمة الرئيسية لهذا المشروع المنكود، ولو تتبعنا المشروع الدستورى فى اللغو الذى سيطر عليه لأخرجنا كتابا بذلك، وسيكون عنوانه «لغو اللغو»! ولو تتبعناه فى عوراته لأخرجنا مجلدا يبدى لهم سوآتهم الفكرية لا تكفى أوراقه كى يخصفوا عليها.
إلا أننا ونحن فى مجال التعقيب يجب أن نتعرض لبعض العورات الفكرية التى لا يمكن أن يستقيم بها الدستور، فالمادة «23» تقرر أن الملكية الخاصة مصونة، كلام جميل، ولكن المادة «26» تعود بنا إلى عصور تأميم الملكيات، فتصفع المادة «23» صفعة سخيفة وتنصّ على أنه لا يجوز التأميم إلا لاعتبارات الصالح العام! معنى ذلك أنه يجوز تأميم الملكيات الخاصة إذا رأت الحكومة ذلك رعاية للصالح العام! أما ما الصالح العام، تلك الكلمة الفضفاضة، وما شروطه، فلا حس ولا خبر، لنعود إلى عهد يؤسس فيه الرجل شركة تنمو وتتشعب وتنافس، ثم إذا بالحكومة تعتدى على الملكية المصونة بمقتضى المادة «23» وتؤمم الشركة لاعتبارات «الصالح العام»، وفقا للمادة «26»! وذلك بالمخالفة لمبادئ الشريعة الإسلامية المنصوص عليها فى المادة الثانية!
مادة الجنسية فى الدستور المزمع مناقشته مادة تدخل فى «الخزعبليات» الدستورية، فالأخ المشرع الدستورى -فك الله ضائقته- وضع المادة «29» التى تحظر إسقاط الجنسية عن أى مصرى لأى سبب من الأسباب، كما تحظر على الأخ الذى اكتسب الجنسية المصرية أن يتخلى عنها، معنى ذلك أنه لو ارتكب أى مصرى جريمة خيانة عظمى كأن تخابر مع إسرائيل أو حصل على الجنسية الإسرائيلية أو على أى جنسية لدولة معادية فإنه سيظل مصريا رغم أنف الجميع، أما من اكتسب الجنسية المصرية فإنها ستكون قد لصقت فيه بحيث لا يجوز له أن يتخلى عنها! وهذا التنظيم يُعتبر من أغرب التنظيمات الدستورية الخاصة بالجنسية فى العالم كله! إذا دخلنا إلى باب الحريات سنجد أن المشرع الدستورى قد وقع فى ظنه أنه يضع قانونا للإجراءات الجنائية فأخذ يمعن فى كتابة التفصيلات الإجرائية التى ينبغى أن ننزه الدساتير عنها، فالمادة «32» تضع قاعدة عدم جواز القبض على أحد أو تفتيشه ولا حبسه ولا منعه من التنقل إلا بأمر مسبَّب من القاضى المختص، هذا أمر حسن، ولكن المادة من باب التزيد حددت الإجراءات التى يتبعها المواطن الذى يتعرض لهذه القيود وحقه فى التظلم وأمام من والمدة التى يتظلم خلالها وهكذا، مع أن الذين يدرسون مادة القانون الدستورى فى الصف الأول من كليات الحقوق يتعلمون أن الدستور ينبغى أن لا يحتوى على التفصيلات الإجرائية والتنفيذية، فمجالها هو القانون لا الدستور.
ولكن من نكد الدنيا على القانونى أن يجد الصغار وهم يتحايلون على الدستور، أعرف أن من ليس لديهم مبدأ هم الذين يتحايلون على القانون، ولكن أن يكون هذا هو ديدن الإخوة من الإخوان وتابعيهم وهم يضعون الدستور فلتلك وايم الله كارثة كبرى، أما كيف يتحايلون على القانون فخذ عندك هذه الحكاية:
كانت «مبادئ الشريعة الإسلامية» غصة فى حلق الإخوان والسلفيين والمتسلفين، فهم يريدون «الشريعة الإسلامية» أو على الأقل «أحكام الشريعة الإسلامية»، المبادئ يجدونها اختزالا مُخِلًّا، وأصل الحكاية أنه عندما قام الرئيس الأسبق أنور السادات لأسباب ليس هنا مجال ذكرها بتعديل المادة الثانية من الدستور المصرى فجعلها «… ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع» إذ ذاك كانت مطالب الحركة الإسلامية وضغوطها أن تكون صياغة المادة هى «الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع»، وحين رفض السادات ذلك خفف رموز الحركة الإسلامية مطالبهم إلى جعل المادة «الشريعة الإسلامية المصدر الأساسى» حسب أن الأساسى تعنى أن الشريعة الإسلامية هى أساس كل شىء، ولغةً تختلف مضامين «الأساسى» عن «الرئيسى»، فرفض أيضا السادات هذه المطالب، وخرجت المادة على صيغة «مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى…»، وفى هذه الفترة الملتهبة من تاريخ مصر كانت المحكمة الدستورية قد نشأت وبدأت عملها، وكان أن اعتنقت المحكمة رأيا بخصوص تفسير كلمة «مبادئ» الشريعة، هذا الرأى هو أن «المبادئ» فى هذا الصدد تعنى «الكليات التى لا خلاف عليها لأنها قطعية الثبوت وقطعية الدلالة»، أما النصوص ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة فرأت أنها تخرج من نطاق التطبيق، لم ترُق هذه الأحكام للإخوان المسلمين لأنها كنت ترغب فى التوسع فى تفسير كلمة «مبادئ» ليجعلوها تشمل النصوص الظنية، فظلت رغبتهم فى تعديل هذه المادة حبيسة فى صدورهم إلى أن أصبحت الفرصة سانحة فى هذا الدستور المنكود، ولكن القوى المدنية وقفت ضد رغبة الإخوان والسلفيين والمتسلفين فى التوسع فى تفسير كلمة «مبادئ» أو تحويلها إلى أحكام، فإذا بالأخ حسام الغريانى يأخذ الناس «على قد عقولهم» ويضع المادة الثانية محتوية على ما أرادته القوى السياسية. أليست المشكلة منصبَّة على المادة الثانية؟ فليكن نص هذه المادة هو «… مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع»، هل استراح الرأى العام؟ إذن خذ عندك يا مولانا، فى الأحكام العامة بالمادة «221» إذا بالمادة تقوم بتعريف عبارة «مبادئ الشريعة» كأن تعريف المحكمة الدستورية لها رجس من عمل الشيطان، وإذا بالتعريف ينتهى إلى أن «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية»، هذا شىء عظيم، ولكن هل هذا يكفى؟ طبعا لا، خذ عندك باقى التعريف «قواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة»، بمعنى أن مبادئ الشريعة أصبحت تحتوى على اجتهادات الفقهاء فى مذاهب أهل السنة والجماعة.
ولأن الاحتياط واجب فقد تكفلت المادة الرابعة بباقى المسألة، والمادة الرابعة هى المادة التى تحدثت عن الأزهر الشريف، وكلنا بالطبع نحب الأزهر، ولكن دسّ السم فى العسل مهنة تحتاج إلى خبير، ولا خبير لديهم، لذلك كانت العبارات المدسوسة والمبثوثة مكشوفة، إذ ورد فى نهاية المادة المأسوفة «… ويؤخذ رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف فى الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية»، والمعنى فى هذه المادة واضح، إذ لو أرادت المحكمة الدستورية أن تفصل فى دستورية مادة من مواد القانون أو عدم دستوريتها فيجب عليها أن تحيل القضية إلى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف لتأخذ رأيها فى هذا الشأن، فلو أخذت المحكمة الدستورية برأى الأزهر فبها ونعمت، أما إذا لم تأخذ برأى الأزهر فستكون محكمة علمانية ليبرالية كافرة ملحدة جاء لها رأى الدين فأهدرته، ومن المؤكد أنك تعرف ما الذى سيحدث فى مصر آنذاك، فالعيِّنة بيِّنة. كان بودى أن أستمر فى بيان سوآت الدستور لولا خشيتى من أن يتهمنى الإخوان والسلفيون بأننى أوزِّع صور «بورنو» تحتوى على سوآت الدستور، تماما كما يفعل المدعو عبد الله بدر الذى وقف يوزع صور «بورنو» تحتوى على سوآت للدلالة على تقواه، لذلك أختم بقولى: يا رب سلِّم سلِّم.