قد يكون هناك من توقع الحكم بالبراءة لبعض من المتورطين فى موقعة الجمل، أسوة بغالبية الضباط المتهمين فى قضايا قتل المتظاهرين فى أنحاء مختلفة من البلاد، ولكن أحداً لم يتصور أن يصدر حكم البراءة بهذا الشكل حيث جاء الحاصل النهائى أن أحداً لم يدان، وكأنهم يريدون القول بأن تلك المعركة التى شاهدناها جميعاً عبر شاشات الفضائيات وأصبحت حديث المصريين وقتها – ومازالت – لم تحدث أصلاً، ولم يموت شهداء ولم يسقط مصابون . أتعجب – حقيقةً – من النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود الذى نعرف جميعاً من الذى قرر تعيينه فى هذا المنصب الحساس، أتعجب لإصراره المستمر على "طرمخة" كل القضايا المتعلقة بقتل المتظاهرين، أو بالإعتداء على الثوار حتى بعد إنتهاء المرحلة الإنتقالية ورحيل المجلس العسكرى .
فى الأساس فإن المشكلة تكمن فى المنظومة القضائية العرجاء التى نعتمد عليها حالياً، والتى لا تستطيع أن تحقق القصاص فى قضايا أو فى ظروف إستثنائية كتلك التى نمر بها منذ إندلاع الثورة وحتى الأن، تلك المنظومة التى أتاحت للنائب العام وللأجهزة الأمنية الفرصة للتلاعب بالأدلة المقدمة إلى المحكمة وللوصول بالقضايا إلى مستوى يستحيل معه تحقيق العدالة الناجزة التى تقتص لدماء الشهداء والجرحى والمصابين .
تكمن المشكلة أيضاً فى أن حكم البراءة فى تلك القضية من شأنه أن يعيد الشرعية والمصداقية للنظام الساقط لدى البعض مرة أخرى، ويثبت إدعاءات رموزه المستمرة عن عدم تورطهم فى مهاجمة المتظاهرين فى ميدان التحرير فى ذلك الوقت، وأن الشهداء والمصابين قد سقطوا بأيدى جهات أجنبية وعناصر خارجية لا ترتبط بالأجهزة الأمنية فى مصر، وأن وزارة الداخلية – التى لا تمتلك قناصة – وضباطها الشرفاء (!) هم ضحية لوسائل الإعلام التى روجت لتلك الفكرة وأقحمت أجهزة الأمن فيها .
ولأن القوانين المصرية بصفة عامة قوانين عمياء لا ترى الحقيقة إلا من خلال أدلة مادية من السهل التلاعب بها، فقد أصبحت مهمة من لا يريدون للعدالة أن تتحقق أو لا يرغبون فى القصاص لدماء الشهداء والمصابين يسيرة للغاية، وهو ما ينذر بضرورة إعادة النظر فى جميع القوانين التى تتعامل بشكل مباشر مع الثورة وتحقيق أهدافها فى أول دورة إنعقاد جديدة للبرلمان القادم .
على الجانب الأخر، فإن جماعة الإخوان المسلمين وحزبها الحرية والعدالة قد بدأو على الفور حملة مبكرة وشرسة لمطالبة الرئيس بإقالة النائب العام – الذى يتعين على الرئيس إقالته فى أسرع وقت- وهو حق يراد به باطل، لأنهم فى سبيل تحقيق ذلك قد قرروا إختيار يوم الجمعة 12 أكتوبر للنزول بمظاهرات حاشدة إلى الشوارع والميادين، وهو نفس اليوم الذى دعت القوى المدنية إلى التظاهر فيه للضغط من أجل تحقيق الرئيس لوعوده بحل الجمعية التأسيسية للدستور وإعلان الرفض لتلك المواد التى تم الإتفاق عليها داخل الجمعية حتى الأن، وهو ما يحمل تفسيراً وحيداً، وهو أن الجماعة قد قررت القفز – كالعادة - على حكم البراءة الذى جاء بمثابة طعنة كبرى فى قلب الثورة والثوار للدفاع عن مصالحها، وعن الجمعية التأسيسية التى تتمتع بأغلبيتها، وعن قرارات الرئيس الذى جاء من رحمها .
أما الرئيس فلن ينصاع لتلك الضغوط المطالبة بإقالة النائب العام من قبل كافة القوى السياسية الأن، وسوف ينتظر حتى يتأكد من أن جماعته قد إنتهت من عملية إجهاض مظاهرات القوى المدنية أولاً، ثم بعدها سوف يفكر فى إقالته حتى يأتى القرار حينها تعويضاً عن قراره الأخير بالعفو عن جميع المعتقلين منذ بداية الثورة وحتى توليه المنصب، والذى جاء متأخراً لكى يتوج خطة المائة يوم الأولى – طبقاً لحسابات الرئاسة – قبل أن يفسد عليه الحكم الأخيرة بالبراءة كل شىء .