فى العالم عدد قليل جدا من المخرجين تشم فيهم رائحة وتاريخ وعبق وملامح البلد التى ينتمون إليها.. كوروساوا «اليابان»، بيرجمان «السويد»، ساتياجيت راى «الهند»، فيللينى «إيطاليا»، تريفو «فرنسا»، شادى عبد السلام «مصر». تقيم مؤسسة اليابان حاليا أسبوعا لأفلام كوروساوا فى مركز الإبداع بالأوبرا، ومع كل فيلم لهذا المخرج الاستثنائى تكتشف أن الشريط ما إن ينتهى مع كلمة النهاية حتى يبدأ عرضه مجددا فى أعماقك.. إنها السينما القائمة على التأمل، تشعر فيها أنك لا تشاهد فقط العمل الفنى ولكنك ترى وتحس وتعقد صداقة مع المخرج. رحل كوروساوا قبل 14 عاما ولكن بقى جزء منه يعيش بيننا، إنه تلميذ كوروساوا النجيب المخرج تاكاشى كويزومى، الذى لا يزال يحتفظ بالكثير من ملامحه ولمحاته.. كل أعمال كوروساوا حتى المأخوذ منها عن روايات كتب لها السيناريو كان كوروساوا كما حكى كويزومى يدرك جيدا البداية وخطوطا عريضة فى التتابع، ولكنه دائما ما يعرف بكل دقة مشهد النهاية الذى يعيش فى خياله حتى يصل إليه.. طقوس كوروساوا فى أثناء العمل أن يطلب من تلاميذه أن يستسلموا لحالة الفراغ، فهو يعتبر أن الطريق للإبداع يبدأ بهذا الفراغ الداخلى ويشبه المبدع بآلة الكمان، ينبغى أن تكون مجوفة من داخلها مثل كل الآلات الموسيقية، وبهذا الفراغ ترسل لنا أعظم الألحان. أتوقف أمام فيلم مبكر ل«كروساوا» وهو الحصن الخفى أخرجه عام 58 وهو الفيلم الذى ألهم المخرج الأمريكى جورج لوكاس ب«حرب الكواكب».. حصل المخرج على جائزة مهرجان برلين وجائزة النقاد الدولية.. فى هذا الفيلم نعود إلى القرن السادس عشر، حيث نتابع رحلة العثور على الذهب الملتصق بأوراق أغصان الشجر، الأمر يستلزم حرق الخشب قبل استخراج الذهب، إنه من إرث أميرة أكيهيمية ويقدم الفيلم حكاية اثنين من الفلاحين اللذين يطمعان فى الذهب ويتصارعان، وفى النهاية ومع تعدد المغامرات يكتشفان أن حياتهما لا تستقيم إلا معا، وتنتهى الأحداث وكل منهما يريد أن يمنح الآخر قطعة الذهب.. ويتبقى فيلم استثنائى فى حياة كوروساوا إنه ليس من إخراجه، كتب السيناريو ولم يمهله القدر لاستكماله وأخرجه تاكاشى كويزومى، الذى قال فى الندوة إنه يتمنى عندما يلتقى فى العالم الآخر مع كوروساوا أن يسأله عن رأيه فى الفيلم، وهل نجح فى أن يستلهم روح وفكر كوروساوا.. الفيلم يبدأ بهطول أمطار غزيرة تمنع أهل القرية وبينهم الساموراى من السفر، ويقررون أن يعيشوا سهرة منزلية نعيش من خلالها طقوس وفولكلور وأغانى هؤلاء البسطاء فى حياتهم المليئة بالسعادة رغم ضيق الحال.. الساموراى خبير فى فنون القتال لكنه يرفض استخدام العنف ويلمحه حاكم القرية وهو يفض مبارزة ويعجب به، ويقرر أن يعينه مدربا للجنود لديه فى قصره، وقبل تنصيبه يصبح عليه أن يشارك فى استعراض وفى أثناء احتدام الصراع مع الحاكم يلقى به فى بركة، ويظل الساموراى يتأسف كثيرا ويعتذر مما يوغل فى قلب حاكم القرية، لأن كثرة الاعتذار تشعره أكثر بالهزيمة، ورغم ذلك لا ينكر إعجابه به ويكتشف الحراس أنه -أقصد الساموراى- راهن فى مرحلة ما من حياته على المبارزة، وهذا محرم ويعترف بالواقعة، فتقول زوجته للحراس نعم فعل ذلك، ولكن قساة القلوب أمثالكم لا يشعرون بأن هناك من يخالف القانون لمساعدة محتاج، أو لإدخال السعادة على قلوب تتوق لمثل هذه اللحظات المسروقة من عمر الزمن، ويسافر بعد أن هدأت الأمطار وعادت السماء صافية، ويعاود العيش مع الطبيعة بنقاء ذهن وروح متسامحة، نعيش بعضا منها مع نهاية الفيلم. تلك هى الرؤية التى قدمها تلميذ كوروساوا المخرج كويزومى، وسألته لماذا الساموراى لا يصاب حتى ولو بخدش فى أثناء المعارك الكثيرة التى يشارك فيها؟ قال لى لأن هذه الشخصية الواقعية بداخلها جانب آخر أسطورى. وأضاف أن كوروساوا كان يمتاز بالقوة العضلية، ورغم ذلك لم يكن يشارك فى أفعال بدنية، فهو على العكس من ملامحه خجول، وربما وجد فى تقديم هذه الشخصية فرصة للتعبير عن المكبوت بداخله.. ومع نهاية فيلم كويزومى لا تزال ترن فى وجدانى كلمته التى نقلها عن كوروساوا، وهى أن المبدع عليه أن يأخذ الحكمة من الآلات الوترية الفارغة من الداخل ليمنحنا أروع النغمات.