مكابر ومغالط من يدعي أن أوضاع الصحافة القومية على ما يرام، وأن صحافة الشعب كانت تدار لصالح الشعب أو خدمته.. بعد أن حولتها عهود الاستبداد والفساد إلى أداة في يد الحاكم وعصابته وأجهزته القمعية والبوليسية، وأصبح اختيار قيادات هذه المؤسسات رهنًا برضاء هؤلاء.. لذلك لم يكن مستغربا أن تخصص لجنة تقصي الحقائق التي شكلت بعد ثورة 25 يناير برئاسة المستشار عادل قورة ملفا كاملا ومنفصلا عن معالجات هذه الصحف للأوضاع في مصر، وانتهت إلى أنها مارست التضليل الإعلامي، وأنها كانت أحد أسباب النقمة على النظام وافتقدت ثقة القارئ، لكن الغريب أن ما انتهت إليه أعمال هذه اللجنة التي استمرت أربعة شهور وقدمته في تقرير إلى رئيس الوزراء السابق عصام شرف والمجلس العسكري ووزير العدل والنائب العام؛ دخل في الأدراج الموصدة، وظل من قتلوا الثوار في مأمن، ومن خربوا الصحافة لا يحاسبهم أحد عن جرائم التضليل والفساد والنهب. الآن وبعد ثورة قدم فيها الشعب المصري دماء وشهداء كي ينتزع حقه في الحرية، وبعد مشوار طويل من قلق المرحلة الانتقالية التي حاولت قوى وتيارات وجهات عدة سرقة الثورة أو احتواءها، وانتهت بنا إلى رئيس يذهب إلى القصر الرئاسي بإرادة الشعب، ولو بأغلبية ضئيلة، امتثالا لقواعد الديمقراطية.. الآن وبعد كل ذلك لا نجد إلا إصرارا أن تخرج الصحافة القومية الجريحة التي تملك أصولا وإمكانات مادية وبشرية ومهنية من الأوضاع التي فرضت عليها في سنوات القهر والاستبداد لتدخل بيت الطاعة الجديد، ممثلا في حزب الحرية والعدالة الذي لا يريد إلا أن يؤكد لنا في كل تصرف وخطوة أنه الوريث الشرعي والوحيد لكل ما كان يملكه أو يسرقه أو يغتصبه نظام مبارك، بما فيه هذا الاختراع العجيب المسمى "مجلس الشورى"، الذي أتى به السادات ليكون مالكا للصحافة بعد إعلان وفاة الاتحاد الاشتراكي، ويخرج علينا المهندس فتحي شهاب، رئيس لجنة الثقافة والإعلام عن حزب الحرية والعدالة بمجلس الشورى، مشهرا سيفه في وجوهنا، ومعلنا أن المجلس أصبح اسمه "مجلس شورى الثورة" وأن اختيار رؤساء التحرير هو حق أصيل لمجلس الشورى لا ينازعه فيه أحد، وأن هذا المجلس وحده من يمتلك ممارسة هذا الحق.. ثم منّ علينا بصفته عضو "مجلس شورى الثورة"، ورئيس لجنة تلقي طلبات الترشح لرئاسة تحرير الصحف القومية، بأن الاختيار الذي كان يتم فرضه علينا بالأمر الواقع في العهد السابق قد أصبح بمناسبة فترة أوكازيون الثورة بالتوافق مع الجماعة الصحفية "طبعا خلال فترة الأوكازيون فقط". ألا يعلم السيد فتحي شهاب والسيد فتح الباب زعيم الأغلبية ب"مجلس شورى الثورة" وكل السادة الجدد ب"مجلس شورى الثورة" إن هذه الثورة ليست عملية سطو مسلح أو قنص أو شعار أرفعه هنا لأخطف هناك.. الثورة عملية تغيير جذري ولا يمكن لأي نظام جديد يدعي أنه ذاهب إلى ديمقراطية دون صحافة مستقلة ودون تحرير وسائل الإعلام، وأن ينعكس ذلك في مواد الدستور وتحفظه القوانين، التغيير الحقيقي المطلوب في الصحافة خاصة القومية هو هدم تركة ترسانة القوانين المقيدة للحريات، والتي لم نمسها حتى الآن وبعد أكثر من عام ونصف العام على الثورة، وكأنها أمانة أو وديعة نحافظ عليها حتى يأتي أصحابها من "طرة" أو غيرها ليتسلموها منا عزيزة مصانة.. التغيير الحقيقي المطلوب أن يكون العاملون في هذه الصحف شركاء في تقرير مصيرها واختيار قياداتها ومحاسبتهم.. التغيير الحقيقي المطلوب أن تعود صحافة الشعب للشعب، وأن نضمن رقابته عليها عبر هيئة شعبية مستقلة لا تمارس الهيمنة أو التوجيه.. التغيير الحقيقي المطلوب هو أن نشرع بهمة وإرادة في محاسبة كل من أفسد وضلل، ولا نجعل من حديث التطهير مجرد كلام مراوغ يهدف إلى تطويع هذه المؤسسات الآن.. التغيير الحقيقي أن تستقل الصحافة وأن تكون شريكة في التحول الديمقراطي الذي نريده بعيدا عن الاستبداد. هذا هو التغيير الحقيقي الذي نريده، أما لعبة المعايير المعيبة لاختيار رؤساء التحرير والإجراءات المهينة واللجنة المعينة بلا صلاحيات لاختيار أشخاص يكون ولاؤهم لمجلس "شورى الثورة الجديد" فهي لعبة خائبة لكنها كاشفة بل وفاضحة.