في الوقت الذي يترنح فيه نظام الفساد الجاثم علي صدر مصر ارتباكاً وتلعثماً، يتخبط بعشوائية في كل اتجاه سعياً للبقاء والسيطرة علي مقاليد الحكم حتي النفس الأخير بأي ثمن ولو بحبس كل الأنفاس !، يدخل الدكتور محمد البرادعي دخولا آمنا وسط حشد جماهيري غير مسبوق لا يضاهيه إلا الاحتفاء بعودة فريق الكرة الفائز وهو قياس مع فارق كبير، ففي الأخيرة تحتشد الجموع وهي مطمئنة ألا أحد سوف يحاصرها بدعوي التجمهر وإحداث بلبلة وتكدير الأمن العام ولن يتم القبض عليها قبل أن تتحرك من مكانها، ولن ُيطبق عليها قانون الطوارئ، بل ستُعامل بلطف ومودة، فالكأس والفوز سيؤول لحكمة الرئيس وتشجيع الرئيس وأسرة الرئيس وحزب الرئيس! وستلعب الأقدام برءوس العامة، فتصور لها انتصارا يسد البطون الجائعة بشبع زائف وبطولة تخدر بها نفوس المنكسرين بفعل الفقر والقهر، أما في الحالة الأخيرة فقد خرجت الآلاف وقد حطمت جزءا كبيرا من جدار السلبية وروح الانسحاب التي ُوصمت بها الشخصية المصرية إلي الحد الذي أودي بمعظمنا إلي حافة اليأس، وقد لعب النظام علي هذا الوتر وغذاه حتي ُخيل إليه أنه نجح بأدوات بطشه في جعله أمرا واقعا يحول دون محاولة التمرد عليه،لكن المفاجأة كشفت عن أن هذا الشعب الكامن، ينفرج معدنه بما يفوق التوقعات والتحليلات في ظرف تاريخي كالذي نشهده الآن ليتصاعد حراكه بوتيرة تجاوزت الصفوة وجعلتها تلهث وراءها، خرجت جموع من المصريين بمختلف الطوائف والمستويات من مثقف لعامل لربة منزل لطفل لشاب لمسن، البدلة مع الجلباب، سافرات يجاورن منتقبات، من أقاصي الصعيد لقلب القاهرة،لماذا؟ وما الذي يعرفونه عن البرادعي؟ وما الذي يبحثون عنه فيه؟ ولماذا لم يحسبوا حسابا لتهديدات بالحبس أو الضرب والبهدلة وغيرها من الوسائل التي نتعايش معها كل يوم باعتبارها أداة النظام الفاعلة ودستورها الوحيد؟، لقد كان بلا أدني شك تعبيرا تلقائيا ورغبة عارمة ُصغرت أمامها كل الحسابات المتعارف عليها وهي الرغبة في تغيير واقع ضاق به الجميع، الميسور منهم أو الفقير، المتعلم أو الأمي،الكل يريد قاربا للنجاة لديه شراع قوي يمكنه من الإبحار وسط الأمواج العاتية،كان البطل هو الناس وكان الإبداع من نصيب الشباب الذي كان القائد بحق، لم تجد في البرادعي مخلصا ونموذجا لأبطال الأساطير يحمل عصاه السحرية مثلما يروج كتبة النظام ساخرين ومستهزئين، وإنما أدركت الجماهير بذكائها وعفويتها أن هناك شخصية جاءت في الوقت المناسب، يحمل تاريخها وتشتمل صفاتها علي ما كانت تتوق إليه هذه الجماهير في ظل حكم أوصل بلدا بقامة مصر إلي ذيل القائمة، أعرب د. البرادعي بوضوح عن عدم ممانعته الترشح للرئاسة والتقط المصريون الخيط ليوكلوا إليه قيادة هذه المرحلة الحرجة وهي مرحلة انتقالية تحمل لواء التغيير الذي يتطلع إليه المصريون بمختلف أطيافهم، لقد شكل البرادعي مأزقا كبيرا للنظام وهو يحاول كعادته تشويه الرجل الذي تجاسر علي الإعلان عن رغبته في الترشح للرئاسة، حيث جاء هذا الإعلان في ظرف موضوعي يموج بحالة من الغليان غير المعلن وإن أحس به الجميع، فتهم الفساد والتزوير وازدواج الجنسية والتشكيك في الكفاءة والتطلع للسلطة، لا تجدي وليس لها محل في حياة شخصية كالبرادعي تتمتع باحترام دولي ومصداقية ونزاهة لا يجرؤ واحد من رموز النظام أن ينافسه فيها، إن قيمة ما يحدث الآن في مصر أن الجميع أصبح يدرك أن التغيير لن يتحقق بشخص أيا ما كان، وأن زمن الفرد الملهم قد ولي وجاء وقت العمل الجماعي، وضرورة أن يشعر المواطن المهمش بأن مشاركته هي الداعم الرئيسي لنجاح وبقاء القيادة، المرحلة التي نعيشها الآن تقف علي أعتاب عنق الزجاجة بين الاختناق وبين التحرر، زخم جماعي لابد وأن يتلاحم ليتمكن من الاندفاع، لقد حقق القبول الشعبي الذي عكسه استقبال آلاف التواقين للتغيير والثقة الدولية التي يتمتع بها البرادعي دخولا آمنا لوطن لا يضمن أحد ممن يحكمونه خروجا آمنا، غدا أو بعد غد.