ماراثون انتخابى عظيم لم تشهد مصر مثيلا له خلال آلاف السنين الماضية.. هذا الماراثون الانتخابى انتهى الأحد الماضى مكللا بنجاح أول رئيس جمهورية يأتى بانتخابات ديموقراطية حقيقية، لا خلاف على أنه لا يشوبها تزوير فادح أو فاضح -كما السابق- كما أنه لا خلاف على عدم نزاهتها الكاملة وعدم تكافؤ الفرص فيها تمامًا. وصل قطار هذا الماراثون الانتخابى إلى محطته الأخيرة، وفاز محمد مرسى مرشح جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة (حسب ما أكده مؤتمره الذى عقده فجر يوم الإثنين الماضى)، فاز بأغلبية الأصوات الصحيحة، وبذلك صار أول رئيس جمهورية مصرى يأتى بإرادة شعبية حقيقية، وصار للإخوان المسلمين أول رئيس جمهورية لمصر يتولى شؤون الحكم للمرة الأولى فى تاريخ الجماعة منذ أكثر من ثمانين عاما (بداية إنشاء الجماعة التى أسسها حسن البنافى مارس 1928)، وحققت الجماعة الآن أقصى ما لم تكن تحلم به على الإطلاق، وما لم تكن تتوقع حدوثه فى يوم من الأيام إلا بعد سنوات طوال بعد رحيل حسنى مبارك وتوريثه ونظامه الاستبدادى.
على الإخوان، جماعة وحزبا وأشخاصا، وخصوصا الرئيس محمد مرسى (حسب كلامهم، حيث لم تعلن النتائج الرسمية وقت كتابة المقال)، أن يدركوا جميعا أنه لولا الثورة التى خرج فيها الشعب المصرى، مسلميه ومسيحييه وشبابه وشيوخه، غنيه وفقيره (جميع طوائف الشعب)، لما كانت لهم كلمة ولا صوتا مسموعا، ولما نجحوا فى الوصول إليه، ولولا بقاء شباب الثورة فى الميادين واستمرارهم فى ثورتهم حتى رحيل النظام، لكان الإخوان المسلمون الآن خلف القضبان، وعلى رأسهم مرشدهم الأعلى محمد بديع، ورئيس حزبهم المبجل الذى تعهد فى حملته الانتخابية بأنه سيترك حزب الحرية والعدالة حال نجاحه فى الانتخابات الرئاسية، ونحن نطالبه الآن بتنفيذ وعده وعدم النكوث فيه، بل نطالبه بترك الجماعة نفسها، وضرورة أن لا يكون رئيسا للحزب أو مرشدا للجماعة، بل يكون رئيسا للمصريين كافة ومرشدا لتنمية الوطن وتطويره والنهوض به.
لقد تعهد مرسى بترك الحزب والجماعة بنفسه ولم يطلب منه أحد التعهد بذلك، ولقد فهم الشعب هذا التعهد على أنه ليس مجرد استقالة من الحزب فقط، وإنما تعهد بعدم مساندة تيار دون تيار، أو دعم حزب على حساب حزب آخر، حتى لو كان الحزب الذى جاء به إلى كرسى الرئيس وفتح له باب القصر.. محمد مرسى يعلم كغيره كثيرين أنه لا حزب الحرية والعدالة ولا جماعته (أكد ضياء رشوان الباحث فى شؤون الجماعات الإسلامية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أن عدد أعضاء الجماعة بين 2 مليون و2٫5 مليون) لا الحزب ولا الجماعة هو ما جاء بمحمد مرسى، وإنما الشعب الذى أعطاه صوته بالملايين (حصل محمد مرسى فى جولة الإعادة على أكثر من 11 مليون صوت، حسب كلام حملة مرسى)، وعليه أن يكون رئيسا لكل المصريين، من انتخبه ومن لم ينتخبه، لا أن يكون رئيسا للإخوان فقط أو للحرية والعدالة دون غيره من الأحزاب، لا نريده رئيسا لمرشد الجماعة.
مرسى وإخوانه وحزب حريته وعدالته يعلمون أن هذه الملايين التى خرجت لاختياره وانتخابه كانت ترى فيه استكمالا لثورتهم التى بدأوها يوم 25 يناير 2011 (وإن لم يكن محمد مرسى ثوريا أو من الثوار الذين خرجوا فى ذلك اليوم)، مطالبين ب«عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، فهم رأوا فى مرسى تحقيقا لأهدافهم التى رسموها لثورتهم وتمنوها لحياتهم القادمة، كان أول مطالبهم هو «العيش»، وهذا أقل الحقوق الآدمية، فلا بد أن يضمن لهم حياة كريمة، والثانى هو «الحرية» فعليهم أن يكفلوا الحرية والحق فى الرأى للجميع، ولست فى حاجة إلى تذكير مرسى وإخوانه المسلمين بصور التنكيل التى كانوا يلاقونها، والعذاب الذى كابدوه من نظام مبارك، وكذلك الإقصاء المتعمد لهم، ولكل من كان يدعمهم ولو بالتأييد، لقد نكل بهم النظام السابق وأذاقهم البلاء فى الكؤوس (بغض النظر عن علاقتهم مع النظام السابق وعقدهم اتفاقات وصفقات مع الحزب الوطنى المنحل ولجنة سياساته فى انتخابات سابقة.. اعترف بذلك مرشدهم الأعلى السابق مهدى عاكف)، فلا خلاف إذن على أنهم ذاقوا الأمرين، ولا خلاف أيضا على أن عليهم أن يتجنبوا أن يذيقوه للشعب ثانية وأن لا يسقوهم من نفس الكأس التى جرعهم منها النظام السابق، وأن لا يستخدموا نفس أسلوب مبارك مع مخالفيه، وإلا سيثور عليهم الشعب كما ثار على مبارك، بل وسيسقيهم من نفس الكأس التى تجرع منها مبارك سابقا، عليهم أن يدركوا أن الشعب هو الذى أعطى مرسى الشرعية، وهو الوحيد صاحب الحق فى الخروج على تلك الشرعية وسحبها منهم ثانية، كما فعلها مع من هم أشد منهم قوة.
أظنهم يدركون تماما أن اختيار الشعب لمرسى لم يكن تشريفا له لأنه دكتور جامعة أو كان باحثا فى «ناسا» (حسب الكلام غير المؤكد فى حملته)، وإنما كان ذلك تكليفا منهم لمرسى بمهام تنوء بحملها الجبال، ومرسى وضع نفسه موضع المسؤولية السياسية والتنفيذية عندما قدم أوراق ترشحه للمنصب إلى اللجنة العليا للانتخابات، فعليه أن يدرك أنه اختار المسؤولية بإرادته الحرة ولم يكن مجبرا على الترشح، ولم يطالبه الشعب بذلك (اللهم إلا جماعة الإخوان المسلمين التى تعهد بالخروج من مكتب إرشادها ومن حزبها حال نجاحه، تلك الجماعة وحزبها الوحيد الذى طلب منه الترشح، وقد صار الآن ممثلا للشعب لا للجماعة وحدها)، عليه أن يدرك أن الناس ستحاسبه إن أخطأ حسابا سيكون أشد من حساب الملكين، سيكون حسابا حقيقيا (ليس كحساب مبارك وعصابته الهزلى).
هذا الشعب الذى ذهب إلى لجان الانتخابات لاختيار محمد مرسى (وكذلك سيحاسبه إن أخطأ)، هو الآخر اختار مرسى، بإرادة (نحسبها) حرة، لأنه يحلم أن يرى فيه صدق أبى بكر الصديق، وقضاء عمر بن الخطاب، ورقّة عثمان بن عفان، وفقه على بن أبى طالب، ودهاء معاوية بن أبى سفيان، ومكر عمرو بن العاص، وفجر زياد بن معاوية على ما يرى فيه تهديدا للدولة، وشدة عبد الملك بن مروان، وأخيرا عدل عمر بن عبد العزيز.. انتخبوه لأنهم تمنوا أن يكون له إخوة خير من إخوة يوسف عليه السلام، وأصحاب كأصحاب الكهف مؤمنون بغايتهم ويسعون وراء أهدافهم، تمنوا أن تكون له زوجة كزوجة فرعون ناصحة بالخير، لا كزوجة عزيز مصر خائنة، وأن يكون له وزير كهارون مع موسى لا كهامان مع فرعون، وأن يكون له قوم كالأنصار مع محمد صلى الله عليه وسلم، لا كبنى إسرائيل يقولون لموسى «اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون».