الكونجرس يقر باستمرار نظام مبارك هل وصلنا إلى نقطة اللاعودة فى العلاقات المصرية الأمريكية؟ وإذا كان هذا الافتراض «مبالغا فيه» أو «غير قائم أساسا» فكيف ستتم «إزالة آثار العدوان الغاضب الشرس؟» الذى شاهدناه وقرأناه وعشناه فى الأيام الأخيرة. وترى ماذا تريد القاهرة من واشنطن فى نهاية الأمر؟ هل تريد «شيكا على بياض؟» أم علاقة قوية مبنية على «الاحترام المتبادل» وبالطبع «المصالح المشتركة»؟! أم تريد «القطيعة»؟ وماذا عن واشنطن والدولة القادمة فى مصر؟ هل من جديد مرتقب ؟ أم المطلوب أو المأمول هو «إبقاء الحال على ما كانت عليه»؟ عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء ومصر الجديدة لها لغة وأبجدية مختلفة.. وواشنطن بالتأكيد تدرك ذلك. وبدأنا نسمع من جديد فى واشنطن أصداء «إعلام السلطة» في مصر وهو يشن حربا شرسة ضد أمريكا وتآمرها وخططها لتقسيم مصر وإجهاض الثورة المصرية. ونرى هنا فى أركان الكونجرس التلويح المتكرر الذى يطالب بقطع المعونة الأمريكية لمصر ما دام يتم تقديم المنظمات الحقوقية الأمريكية والعاملين بها والمتعاونين معها للمساءلة والمحاكمة والأهم «الاغتيال السياسى». ترى هل ما حدث يعد «كبش فداء» أو «رهينة» لتخبط «العسكرى» وتردده أو فلنقل عدم رغبته فى تسليم السلطة لحكم مدنى؟! وحسب توصيف أحد المراقبين الأمريكيين للملف المصرى «فإن كل القضايا مطروحة وكل الاحتمالات واردة والأسئلة كثيرة وتتكاثر باستمرار والإجابة عنها تزداد صعوبة.. والمشكلة الأكبر هى أن الكثير من هذه الأمور لم تحسم بعد مصريا.. وقد لا تحسم فى القريب العاجل». وإذا كان السيناتور الجمهورى البارز جون ماكين ومعه وفد من أعضاء الكونجرس قد توجه إلى مصر للتشاور والتباحث وإيجاد مخرج للأزمة المتصاعدة فقد حذر الجنرال مارتن ديمبسى رئيس هيئة الأركان الأمريكية من جديد يوم الخميس الماضى (16 فبراير) أعضاء الكونجرس من مخاطر قطع المعونة العسكرية لمصر و«عواقبها» (حسب وصفه). وفى اليوم نفسه طالبت النائبة إليانا روس ليتنن رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب بوقف التعامل مع الوزيرة فايزة أبو النجا وعدم إرسال المعونات التى تمر عبر وزارتها. وانتقدت فيكتوريا نولاند المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، الإعلام المصرى أو ما نشر فيه تحديدا فى إطار تصعيد الأزمة وتسميم الأجواء. وكان مجلس النواب قد شهد خلال يومى الأربعاء والخميس الماضيين جلستى استماع لمناقشة الأزمة المثارة وأحوال مصر بشكل عام. الجلسة الأولى كانت تحت عنوان «تأملات عن الثورة فى مصر». والجلسة دعت إليها اللجنة الفرعية للشرق الأدنى وجنوب آسيا بلجنة الشؤون الخارجية فى مجلس النواب. وشارك فى الجلسة خبراء فى شؤون مصر: روبرت كيجان من مؤسسة «بروكنجز»، وميشل دن من مجلس «أطلنطيك»، وإيريك تريجر من معهد «واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، وتامارا ويتز النائب السابق لمساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط. أما الجلسة الثانية تحت عنوان «مصر فى مفترق طرق» كانت أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب برئاسة النائبة إليانا روس ليتنن (جمهورية من ولاية فلوريدا). وقد حضر الجلسة رؤساء أربع منظمات أمريكية صارت موضع اتهام فى الأزمة الأخيرة وهم لورن كرينر رئيس المعهد الجمهورى الدولى، وكينيث وولاك رئيس المعهد الديمقراطى الأمريكى، وديفيد كرينر رئيس «فريدوم هاوس»، وجويس برناتان رئيسة المركز الدولى للصحفيين. وحسب ما جاء فى كلمات النواب أو شهادات المسؤولين عن المنظمات وخبراء شؤون مصر نستطيع أن نتوقف أمام مواقف واعتقادات أمريكية عديدة ذُكرت وأعيد ذكرها عبر كلامهم. وأذكرها هنا فى محاولة منى لوضع الأمور فى نصابها الصحيح ونقل الصورة كاملة وتفادى الوقوع فى تعميمات وتشويهات ولىّ حقائق ونشر أكاذيب تخدم أغراضاً ما لفئة ما فى زمن ما لا أكثر -مثلما هو الحال- كما يبدو بوضوح فى المشهد المصرى. قالوا وذكروا مثلا: أن مصر بموقعها الاستراتيجى ومكانتها الحضارية يجب الوقوف معها وهى تجتاز هذه المرحلة الحرجة. وأن الشعب المصرى الذى ثار على ما كان يعانى منه لا نعتقد أنه يريد استمرار الوضع كما كان وأكيد لا يقبل استمرار ما نراه الآن. كما أن الأمر المثار سياسى أولا وأخيرا حتى إن تم تكييفه أو تغليفه أو ترويجه بأنه أمر قانونى وبأن من انتهك القانون عليه أى يحاكَم ويعاقَب. وأن الخلاف الدائر ليس حول القانون وليس حول الأموال وإنما حول التحكم فى أموال هذه المنظمات ونشاطها. وأن المستهدف من هذه الحملة الأخيرة الشرسة ليس المنظمات الأمريكية بقدر ما هو المجتمع المدنى والمنظمات المصرية العاملة فى مجال حقوق الإنسان. وأن هذه المنظمات «المتهمة حاليا» عملت من قبل فى أكثر من 100 دولة على امتداد العالم ومنها دول مثل روسيا والصين وفنزويلا (والتى تعد دولاً «غير صديقة» لأمريكا) ولم تتعرض لمثل ما حدث لها فى مصر من اقتحام لمقراتها و«بهدلة» لموظفيها و«تشويه لسمعتها». وأن الأسئلة خلال استجواب الموظفين المتهمين كان أغلبها أسئلة سياسية وعن مواقف ونيات وليست أسئلة جنائية حول مخالفات وممارسات. ودون «شخصنة» الموضوع وتوجيه أصابع الاتهام لهذا الشخص أو الآخر ومحاربة معارك الماضى و«الفلول» فإن التوجه الغالب لدى أغلب الأطراف التى تهمها الشأن المصرى فى واشنطن هو النظرة للمستقبل ودور هذه المنظمات وغيرها فى المساهمة وإثراء التجربة المصرية فى تحديث وتطوير مصر. ولعل شهادة ومداخلة روبرت كيجان الخبير الأمريكى البارز فى الشؤون الخارجية فى جلسة بالكونجرس عكست الكثير من عقلية ونفسية واشنطن وهى تواجه هذه الأزمة. قال كيجان «ونحن نواجه أزمة المنظمات غير الحكومية. يجب أن نوضح من هو مصدر الأزمة بالفعل. المصدر ليس الإخوان المسلمين وليس الرأى العام فى مصر. وما حدث ليس نتاجا مؤسفا للثورة. وإذا كان لا بد من وصفه فهو عاقبة عدم اكتمال الثورة. إن المنظمات غير الحكومية قد تم استهدافها فى عهد مبارك. والحدث الأخير يمثل المباركية دون مبارك. وقد تم تنفيذه من جانب فلول من النظام القديم وقد تم مساندته وبكل الأدلة وتشجيعه من جانب (العسكرى). إنهم حريصون على تشويه سمعة منظمات مصرية وأمريكية تروج لمحاسبة الحكومة وتطالب بالشفافية وحقوق الإنسان.. وقد تم وصفها (كعملاء) لحكومات أجنبية وهذا يتناسب مع الخطاب القائل بأن المظاهرات والإضرابات ضد الحكم العسكرى يتم إدارتها من جانب قوى خارجية -إنها حيلة أخرى من عهد مبارك». كيجان الخبير بمؤسسة «بروكنجز» وصاحب دراسات وكتب عدة فى السياسة والاستراتيجية يعمل حاليا كأبرز مستشارى ميت رومنى المرشح الجمهورى للانتخابات الرئاسية الأمريكية فى ما يخص الشؤون الخارجية والاستراتيجية. وقد شارك مع ميشل دن (الخبيرة فى شؤون مصر) فى تأسيس فريق عمل من أجل مصر فى شهر فبراير 2010. كما أن كتابه الأخير «العالم الذى صنعته أمريكا» الصادر منذ أسابيع أصبح مثار اهتمام كبير من الأوساط السياسية ومراكز الفكر والسياسة الخارجية فى واشنطن وذكر أن الرئيس أوباما مهتم للغاية بالكتاب وما جاء به من توصيف وتذكير بالدور الأمريكى فى العالم.. كيجان وهو يطالب بضرورة أن تتعامل أمريكا مع واقع مصر الجديدة قال «علينا أن نعمل مع الإخوان والليبراليين والقوى العلمانية وجماعات أخرى من أجل بناء مستقبل أفضل للشعب المصرى» كما أنه أثنى على الإدارة الأمريكية لتواصلها مع القيادات فى الإخوان «لأن مصر لم تعد تُحكم من جانب رجل واحد وقوى. وعلينا أن نتعامل بحساسية ونتجاوب مع الشعور الشعبى فى مصر حتى لو لم يعجبنا نكهة الرأى العام» حسب قوله. ثم أضاف «علينا أن لا نستمر فى ارتكاب نفس الأخطاء مرارا وتكرارا. إننا نخطئ إذا تشبثنا ب(العسكرى) كالمرفأ الآمن الوحيد فى مصر. إن (العسكرى) وفلول أخرى من النظام القديم يبغون تقديم خيار ما للغرب وهو إما نحن وإما الإسلاميين. إن مبارك وضع الخيار نفسه ولقد دهس الليبراليين وترك الإسلاميين يترعرعون. ونحن اخترنا مبارك والآن نجنى العواقب». وأشار كيجان فى كلمته إلى أن هناك خرافة ما حول ما حدث فى مصر وعن دور أمريكا فى ما حدث قائلا «إن الولاياتالمتحدة لم تحدف مبارك تحت الباص كما يعتقد (فى ما يبدو) العديد من المستبدين فى المنطقة وبعض الناس فى الولاياتالمتحدة» وأضاف «أن مبارك هو الذى رمى نفسه تحت الباص وإن الشىء الوحيد الذى فعلته الإدارة الأمريكية هو أنها لم تقفز معه تحت الباص». وبينما كانت تتصاعد نبرة الهجوم الآتية من القاهرة كتب ديفيد إجناشيوس الكاتب السياسى المعروف فى «واشنطن بوست»: على الولاياتالمتحدة أن تكظم غضبها الآن وتتفادى الإسراع فى قطع المعونة لأن هذا سيحول من الوضع السيئ إلى الأسوأ. الكاتب البارز بعد أن تساءل عن أى نوع من الثورة الديمقراطية تلك التى تقوم باتهام منظمات تدعو للديمقراطية؟ لم يتردد فى الإشارة إلى أن «الثورة المصرية هى ثورة تتخبط وتبحث عن أناس لتلومهم على ما ترتكبه من أخطاء». وكان لافتا للانتباه أن الجنرال ديمبسى العائد للتوّ من زيارة لمصر وهو يتحدث عن الخطأ فى قطع المعونة العسكرية قال لأعضاء الكونجرس «عندما نستخدم التمويل لكى نفصل أنفسنا عن شركاء سابقين لا شىء جيدا يمكن أن ينتج عن ذلك». وحرص أكثر من نائب بالكونجرس على تأكيد أن محاولة الاستهانة أو التقليل من شأن اتهام مواطن أمريكى لسبب سياسى واضطهاده ومطاردته فى بلد ما وأخذه «رهينة» لخلاف، لهوَ ليس بالأمر المقبول مهما كانت المبررات والتفسيرات. والكل ينتظر ويترقب كيف ستنفرج الأزمة؟ فما قيل وتردد تخطى بلا شك قضايا التمويل والمنظمات الحقوقية. نعم واشنطن قد تكون فقدت أصدقاءها القدامى فى مصر وقد لا تستطيع أن تكسب أصدقاء جدداً لها. إلا أن فى العلاقات الدولية صديقك ربما لا «يتمنى لك الغلط» ولكن ليس دائما على استعداد «أن يبلع لك الزلط».