يتطلب القيام بالثورات عادة إندفاع فئة معينةمن رحم المجتمع لكى تتصدر المشهد الثورى، وتعلن إحتجاجها على الظروف المحيطة بهاورغبتها العلنية فى تغيير تلك الظروف تغييرا جذريا.. تتوافد بعد ذلك جميع طوائفالمجتمع لتلتحم بهذه الفئة، تتصاعد مع هذا التوحد المجتمعى حدة المطالبات التى –عادة أيضا – ما تصل إلى إسقاط نظام الحكم القائم كبداية لتحقيق هذا التغيير التىخرجت هذه الجموع من أجله . والحقيقة أن فئة الشباب التى تتراوح أعمارهمما بين 18-35 فى مصر قد لعبت الدور الأهم فى إندلاع ثورة الخامس والعشرين منيناير.. إلا أننا لا نستطيع أن ننكر الدور المحورى الذى قامت به الحركات السياسية –التى شكلها الشباب أيضا لعدم إقتناعهم بجدوى المجهودات الضحلة التى تقوم بها أحزابالمعارضة الكارتونية فى تصديها لفساد النظام البائد – والمنظمات الحقوقيةوالجمعيات الأهلية والنقابات المستقلة، ممثلين عن قوى المجتمع المدنى المصرى المتعددة . و بعد مرور عام كامل على الثورة، تقف بعض هذهالقوى الأن فى موضع الإتهام الذى تنبنى فرضيته على تلقى هذه المنظمات تمويلا منالخارج دون الحصول على إذن من سلطات الدولة المعنية، ما يجعله نشاطا غير مشروعيعاقب عليه القانون . فإذا نظرنا إلى طبيعة الإتهام الموجه إلى هذهالمنظمات من زوايا عدة سوف نكتشف أنه إتهام سياسى فى دوافعه أكثر من كونه إتهاما جنائيا، حيث يتمحور الإتهام حول عدد قليل من هذه المنظمات مقارنة بالعدد الهائلالذى يعمل فى مصر تحت مظلة نفس الممارسات، فى حين أن أصابع الإتهام تتوجه بصفةخاصة إلى ثلاثة من المنظمات الأمريكية التى تعمل فى مصر تحت عباءة الديمقراطيةوحقوق الإنسان وهم المعهد الديمقراطى والمعهد الجمهورى ومنظمة فريدوم هاوس، حتىوصل الأمر إلى توجيه الإتهام إلى 19 أمريكيا من أصل 43 متهما، ووضع سام لحود نجلوزير النقل فى الحكومة الأمريكية على رأس القائمة . لا أعتقد أن هناك مصرى يحمل ولو قليل منالإنتماء والإخلاص لهذا البلد قد يقبل بالسماح بدخول أموال هكذا دون ضابط أو رابطمن غير أن نعرف الهدف من وراء ضخ تلك الأموال، وخاصة حينما نكون على يقين أن هناكفاتورة يجب علينا دفعها فى مقابل السماح بدخول تلك الأموال، أو من الممكن أن يقبلبإستخدام أجهزة الإستخبارات الأجنبية لمثل تلك المنظمات كواجهة يمكن لها ممارسةأنشطتها داخل مصر من خلالها، إلا أن ما يدعو إلى الإستغراب هو الميل إلى الحذردائما من الغرب ومن الأخطار التى قد تأتى لنا من ناحيته، وتجاهل – أو تعمد تجاهل –الشرق وما يستطيع أن يضخه من أموال ساهمت ومازالت تساهم فى تغيير الخريطة السياسية المصرية بشكل كبير . إذن فإننا أمام تغيير جذرى فى الخطاب الموجهإلى الولاياتالمتحدة بصفة خاصة، وتحول حاد فى السياسة المتبعة وطريقة التعاطى معالأمور تجاه الإدارة الأمريكية.. وما يوحى بأن ثمة بعض الأمور التى تحدث الأن داخلالغرف المغلقة لا نعرف عنها شيئا، خصوصا بعد تلويح الإدارة الأمريكية بورقةالمعونة كوسيلة للضغط على المجلس العسكرى للإفراج عن النشطاء الأمريكيين ورفعأسماءهم من على قوائم الممنوعين من السفر . هناك تعريف شهير للسياسة على أنها " فن الممكن " وهو ما يعنى ببساطة تصريف شئون الدولة والمصالح العامة بحيث يكونذلك مقترنا بإتخاذ القرار الصحيح فى الوقت المناسب، إلا أن إرادة الله – وله فىذلك حكمة – قد أوقعت المصريين تحت حكم المجلس العسكرى الذى قد أخطأ - فى تقديرى –فى إختيار التوقيت لإتخاذ مثل هذا القرار – كما أخطأ فى العديد من المناسباتالأخرى – والذى سوف يؤثر بالسلب على الأوضاع السياسية والإقتصادية للبلاد بشكلملحوظ . لا تكمن الخسائر التى من الممكن أن تعانىمنها مصر فى هذه اللحظة الحرجة من تاريخها فى إحتمالية لجوء لجنة المعونة فىالكونجرس بالإمتناع عن الإفراج عن المعونة التى تذهب سنويا لمصر فى شكل مساعداتعسكرية – فى أغلبها – تقدر بنحو 1,3 مليار دولار.. وإنما من الممكن أن تتبلور هذهالخسائر فى شكل ضغوط أمريكية على البنوك والمؤسسات الدولية التى تسعى مصر للإقتراضمنها لسد العجز الهائل فى الميزانية، بل وقد تلجأ الولاياتالمتحدة أيضا للضغط علىدول العالم – وخاصة الدول العربية – التى تنتظر منها مصر أن تفى بإلتزاماتها حتىتكون قادرة على مواجهة إستحقاقات الثورة . المجلس العسكرى يدرك تماما أن مبدأ رفضالمعونة الأمريكية محل إتفاق شعبى، لما تمليه هذه المعونة من شروط وواجبات سياسيةيكون على مصر القيام بها، إلا إذا كان قطع المعونة سوف يتسبب فى ضررا أكبر منالمنفعة التى سوف تتحقق من إستمرارها . فإن كان المجلس العسكرى قد إتخذ هذا القرارعن غير دراية بهذه التحديات التى قد تواجهه، ومن دون تقدير دقيق للموقف ودراسة حقيقيةلإمكانية تحمل البلاد لتداعيات إتخاذ هذا القرار فى هذا التوقيت.. فإن هذا سوفيكون بمثابة حلقة جديدة فى سلسلة الإخفاقات التى تعودنا عليها من قبل المجلسالعسكرى فى إدارته للمرحلة الإنتقالية، أما إذا كان الأمر يتعلق برغبة المجلسالعسكرى فى إستخدام ورقة " المنظمات الحقوقية " للضغط على الإدارة الأمريكية أو مساومتها حول أى من القضايا الضيقة التى لا تعود بالمنفعة على هذاالشعب – أو حول أى من الأشخاص – وهو يدرك تماما مدى العواقب الوخيمة التى علىالمصريين إذن أن يواجهونها جراء ذلك فى هذا التوقيت العصيب، ففى هذه الحالة أعتقدأن الأمر فى مجمله قد يحتاج إلى التفكير مجددا وإعادة النظر من قبل المجلس العسكرى، حتى لا يؤدى به فى نهاية المطاف إلى إضافة جريمة أخرى إلى قائمة الجرائمالتى سوف يكون عليه أن يواجهها بعد إنتهاء حكمه للبلاد .