علي من يود قراءة رسائل داود عبد السيد في فيلمه الأخير «رسايل البحر» الاستعداد للقفز في البحر المتلاطم من المشاعر والأحاسيس والرموز والصور والألوان والمعاني الغامضة، هو كفنان لا يريد أن يكون فيلمه سهلاً يفهمه الجميع أو سريع الإيقاع يجذب المتفرج المتعجل. علي المتفرج أن يدخل العالم السحري للفيلم بقوانين مختلفة عن محفوظات الفرجة في السينما المصرية، عليه أن يجري خلف المشاهد واللقطات والصورة والإضاءة والحوار وتعبيرات وجوه الممثلين ليعيش الحالة التي يريد الفيلم توصيلها، هي حالة بلا وعود لإجابات عن أسئلة محيرة أو حلول لمشاكل اجتماعية.. قد لا يحب المتفرج الذي يشاهد الأفلام عادة بنصف تركيز «رسايل البحر»، قد لا يعي قيمة صمت الفيلم عن الكلام المباح في لحظة يتوقع فيها إجابة سؤال يطرحه السيناريو.. شخصيات الفيلم يحيي ونورا وقابيل وبيسة وكارلا والحاج هاشم ترتبط بالواقع بحكم دورها الدرامي، لكنها تحمل أحياناً بعداً أسطورياً خفياً يشرق ويغرب بين لقطات الفيلم وجمل الحوار. الرسالة التي وجدها البطل داخل زجاجة في البحر لم يتمكن من معرفة اللغة التي كتبت بها أبداً.. رسالة الفيلم كانت توصيل الرسالة وليس تفسيرها وتنظيرها.. تكثيف المشاعر والأحاسيس وتجييشها للقطة النهاية البديعة السيريالية حينما يبقي البطل وحبيبته وحدهما علي قارب يتضاءل والكاميرا تبتعد والبحر حول القارب ملآن بالأسماك الميتة.. إنه ليس فيلم مواعظ وأحكام يقينية مطلقة عن أي شيء. «رسايل البحر» فيلم هادئ وناعم لا يرقص علي سلم الفذلكة الفنية والادعاء ومداعبة جمهور السينما التجارية في نفس الوقت. بطل الفيلم يحيي يبدأ رحلته من القاهرة بعد وفاة والده وإفلاس عائلته الغنية إلي الإسكندرية مدينة طفولته.. تبدو رحلته كرحلة آدم من جنة النعيم المطلق إلي واقع الأرض. يمارس في الإسكندرية المتع المحرمة لأول مرة.. يسكر ويلتقي فتاة ليل تتعلق ببراءته الشديدة.. يقف كل مساء أسفل نافذة منزل ينصت إلي عزف ساكن المنزل الساحر والعذب لمقطوعات شوبان. في «رسايل البحر» رموز دينية وثقافية وفنية وعاطفية.. فيه فورة وطرطشة الموج المتلاطم في لحظات حنانه وغضبه.. تهتهة البطل يحيي «آسر ياسين» وندم قابيل «محمد لطفي» علي حادث قتل خطأ ارتكبه، والتفاحة التي يقدمها المعلم المستغل «صلاح عبد الله» للبطل.. تلك الأشياء والإشارات تقدم في الفيلم كعناصر سحرية للتعبير الموازي عن واقع حاضر وتاريخي، إذا وجدت رابطا ما بين تفاحة غواية «آدم» وقتل قابيل لهابيل وتهتهة النبي «موسي» واستعانته كالبطل بأخيه ليتحدث نيابة عنه، أو حديث البطل الغاضب للبحر الهائج الذي يبخل عليه بالصيد في يوم لا يجد فيه ما يأكله.. كلها أمور قد لا تحمل دلالة دينية مباشرة، ولكنها ترتبط جينياً بالأجواء الأسطورية للفيلم الذي يرصد تناقضات البشر وحيرتهم ودونية الحياة ورغبتهم في السمو والتحليق بعيدًا عن ضعفهم، بين بشرية تعيش بلا هدف ونبوة تحاول تبليغ الرسالة. يبدو «صلاح عبد الله» في دوره الصغير عبقرياً، وهو يقدم صورة من الشيطان الذي أفسد المدينة بجشعه واستغلاله وضيق أفقه وبلطجته.. يضع أمام البطل تفاحة، وهو يساومه علي ترك شقته ليهدها ويبني مكانها «مول» تجارياً كحال كثير من العمارات السكندرية الجميلة، في عمارة يحيي لا نري سوي الجارة الإيطالية العجوز فرانشيسكا «نبيهة لطفي» وابنتها كارلا «سامية أسعد».. هما جزء من ذكريات تلك العائلة الأوروبية التي عاشت في مصر، وجزء من حيرة إنسانية تبحث عن الوجود والهوية والوطن بمعناه الإنساني، وليس الجغرافي.. جزء من ميول كارلا تائه بين حب قديم منذ الطفولة ليحيي وبين ميولها الحسية لنفس جنسها. النصف الأول من الفيلم هو الأبطأ والأكثر تأملية والأقل أحداثاً.. السيناريو يتلكأ كثيراً في البوح درامياً.. وقفات الكاميرا تطول بشكل زائد عند صورة لأمواج متلاطمة أو عند استعراض لبعض العمارات القديمة بديعة الطراز في وسط البلد.. صورة «أحمد المرسي» مدير التصوير وموسيقي «راجح داود» وديكور «أنسي أبو سيف» من العناصر الجمالية التي منحت الفيلم ثراءً بصرياً وسمعياً. في النصف الثاني ننتقل إلي تصاعد وتشابك علاقة يحيي بالشخصيات من حوله. التمثيل من العناصر اللافتة والمتميزة في الفيلم.. اختيارات الممثلين في كل الأدوار موفقة إلي حد كبير.. «آسر ياسين» و«بسمة» و«محمد لطفي» و«مي كساب» و«صلاح عبدالله» تنافسوا في تقديم أداء تلقائي وتعبيري بلا تكلف، وأيضاً كان لأداء «أحمد كمال» و«نبيهة لطفي» و«سامية أسعد» و«دعاء حجازي» حضوراً متميزاً رغم أدوارهم الصغيرة. كان الجميع جزءًا من حالة إبداعية خاصة للغاية.