وأخيرًا وبعد أكثر من أربعين عامًا.. أخيرًا كشف لي الأديب الكبير المعتبر. كشف لي الحقيقة.. أو سر علاقتي هذه. عاشق حتي النخاع.. مغرم صبابة.. معها كل أيامي الحلوة والممتعة والرائعة.. منذ وعيت علي الدنيا.. وأنا أعيش حالة الغرام هذه.. حتي إن أمي كانت تقول لي.. كنت تطلبها وأنت ابن خمس سنوات وتجلس صامتًا أمامها. عشق عمري .. الذي لم أفهم أبدًا لماذا غرقت فيه ولم أتخل عنه يومًا .. مهما تقلبت بي الحياة.. وتغيرت .. ومضي العمر.. وابيض شعري.. وتراجعت صحتي.. فأنا العاشق .. الذي حين يجد معشوقته لا فعل له إلا الإنصات وبشدة .. والشعور بالنشوة والبهجة وبسمة لا تفارقني أبدًا وهي معي.. ومهما كانت آلامي.. أو أحزاني أو مشاغلي فأنا أنسي كل شيء في الحياة وأعيش معها تائهًا هائمًا.. مغرمًا وسط زحام الحياة وقسوتها وظلم وقهر الإخوة المسئولين وعذابي وعذاب الناس الذي أعيشه معهم.. مع كل الهموم التي نحياها كأشخاص .. وكوطن.. عندها ومعها يتوقف كل شيء.. وكأني معها أخرج وأغادر الحياة.. أعيش معها حياة أخري حالمة فما أجمل أن أجلس وهي أمامي.. وكثيرًا ما سألت نفسي لماذا؟! صحيح أنها الأجمل والأروع فيما تفعله .. وهي أسطورية في كل ما تفعله، لكن الحب لها جارف.. يملأ قلبي .. وكل يوم بيزيد بيزيد في حلاوته.. ولم أجد الإجابة التي تقنعني أو تحلل لي كل هذا العشق .. حتي قرأت سطور الأديب والكاتب المعتبر. إنه د. محمد المخزنجي.. غاص فيها.. فعرفت السر. قال في عنوان مقالته بجريدة الشروق.. كتب يسأل: هل كانت أم كلثوم تطير؟ آه يا أستاذ يا فنان يا من استطعت أن تجيب عني سؤالاً يشغلني منذ طفولتي وحتي عبر الخامسة والخمسين .. أم كلثوم تطير!! يا سلام يا دكتور مخزنجي.. هذا هو الجواب الشافي.. كانت بالفعل تطير وهي تغني .. ليس هذا فقط.. بل إننا كنا نطير معها ومازلنا .. هذا هو التعبير الذي فقده لسنوات.. وأخيرًا ومنك حصلت عليه وفهمت لماذا أشعر بثقل وزني والتصاقي بالأرض وثقل الحياة علي أكتافي.. وأن الظلم والقهر اللذين نعيشهما - كما ذكرت - يثقلان أنفسنا ويجعلاننا غير قادرين علي حمل أنفسنا.. وحين نعيش الصدق والجمال والحب الحقيقي.. نطير .. ونطير ونطير.. يا سلام يا مخزنجي وأنت تكتب فتقول عن أم كلثوم «إنها تحولت من موحية ومحفزة للحب.. إلي محبوبة بذاتها ولذاتها.. ويا لبراعتك وأنت تمزج بين قدم أم كلثوم الصغيرة وبين القدم الكبيرة وتقول «لم أكف عن سؤالها مرات عن سر صغر قدميها إلي هذا الحد المدهش وأنا غارق في نشوات شدوها الكوني البديع.. حتي وصلت إلي إجابة قد تبدو للبعض لا معقولة.. وأراها منطقية تمامًا بمقياس كل ما هو استثنائي في الحياة.. وهل كانت أم كلثوم شيئًا غير ظاهرة استثنائية من ظواهر الحياة فينا وعندنا.. ومن واقع استثنائيتها هذه أري أنها كانت في شدوها ترتفع عن الأرض فتخفف القدمان من ثقل الجسد وكد الخطو ولا يكون احتقانًا! وعاد المخزنجي وببراعة فائقة يربط بين طيران أم كلثوم.. وقدمها الصغيرة والحذاء الصغير الذي رآه في متحفها بالروضة وبين أصحاب النعال الكبيرة والأقدام الثقيلة.. قائلاً: نحن نعيش في زمن النعال الكبيرة.. ونحن في حاجة إلي الطيران فوق أرض الديناصورات والإحباط والبلادة والغفلة.. يربط بمهارة بين خفة أم كلثوم وثقل أيامنا من كثرة الفساد والقهر والظلم.. ماهر ومعتبر يا أديبنا الكبير.. أخرجت ما في صدري .. أم كلثوم تطير وهي تشدو ونحن نطير معها وهي تشدو ذلك لأنها ظاهرة.. لكن الزمن تغير وصارت الأقدام ثقيلة ومحبطة ورابطة بل جاثمة علي الصدور.. وأقف عند دعوتك الأخيرة في المقال الرائع.. تقول: فهيا ولو قليلاً قليلاً نطير. ولكن كيف يا مخزنجي نستطيع الطيران وفوق الصدر أحمال وأحمال وداخل الصدر هموم وهموم.. ففي مثل هذا الزمن الثقيل.. الزمن الغبي الفاسد.. لا يمكن لأحد أن يطير.. هي فقط التي تستطيع أن تطير لأنها من زمن كانت هي كل الأشياء فيه طائرة!! سؤال ساذج وعبيط مثلي.. «مليون جنيه لعلاج الوزير بطرس غالي».. ده خبر الناس كلها قرأته.. ولم يفكر أحد أن يقول أو يرد من المسئولين.. وبالتالي إما أن الخبر صحيح.. أو أن الناس مش مهم أن يعرفوا الحقيقة لأنهم عامة.. والعامة لا قيمة لهم في أيامنا هذه!!