حدثت أحداث هذه القصة في عام 2036 وكنت في أواخر الخمسينات. عندما قال لي الضابط وهو يبتسم بتهكم شامتا; مع السلامة ياسي ثائر! نرجو أن لانراك هنا ثانية!. تسلمت أشيائي وخرجت. كانت الشمس الساطعة في كبد السماء قد أعمت عيني الوحيدة فأغلقت عليها جفناي!. شمس الحرية بعد خمسة وعشرين عاما قضيتهم وراء الأسوار!. كنت سجينا!. ولاأعرف لي تهمة حتي الآن!. لماذا دخلت وراء الأسوار أو لماذا ضاع عمري وعيني اليمني وتهشمت ساقي اليسري, لاأدري!. كل ماأذكره عن هذا اليوم المشئوم إنني كنت واقفا أيام الثورة رافعا ورقة مكتوبا عليها; الشعب يريد إسقاط النظام!. لم أكن أحمل سلاحا ولا حجرا ولا مولوتوفا!. لم أعتد علي أحد لاباللسان ولا باليد!. كانت أحلامي بسيطة!. كنت لاأفكر سوي في إبنتي الصغيرة!. أن أستطيع شراء اللبن لها!. أن أعلمها تعليما محترما وأن أعالجها إن مرضت وأن أسترها عندما تكبر!. ولكنني فجأه وجدتني علي الأرض مسحولا ومحاطا بأكثر من عشرة جنود وهم يضربونني بالهراوات وبأحذيتهم!. عندما أفقت بعد عدة أيام, عرفت إنني قد فقدت عيني اليمني وإني لا أستطيع السير سوي بالعكاز!. مثلت أمام محاكمة عسكرية, بلا محام!. لم أستطع حتي الإتصال بزوجتي أو بوالدتي لأطمأنهما علي!. وفي ظرف الأسبوع كان محكوما علي بالسجن مدي الحياة!. الآن أنا حر!. أخيرا!. أتوق لأن أصلي ركعتين شكرا لله!. دخلت مسجدا. إنشرح قلبي. كان كل معمرينه ملتحين. صليت ركعتين تحية للمسجد. جلست في إنتظار صلاة الظهر أقرأ القرآن لأشرح به صدري!. كانوا ينظرون إلي شذرا!. توجه إلي أحدهم قائلا; ياأنت, ألا تخجل من حلاقة ذقنك وأنت في اواخر العمر؟. هززت رأسي وصليت الظهر منفردا ثم مضيت! .لم أنتظر الجماعة!. أشرت إلي سيارة أجرة بيضاء قديمة متهالكة. جلست بجوار السائق. كنت أتوق لرؤية أهلي!. تغيرت معالم الحي تماما!. عندما وصلنا إلي العنوان لم أجد منزلي!. وجدت مكانه أكواخا وحوله مبان قبيحة عشوائية!. السائق علي يقين أن هذا هو الشارع وأنا أيضا برغم ضياع العمر!. لم أر أي وجه أعرفه ولن يتذكرني أحد!.. أين إبنتي, أين زوجتي؟ وأين أهلي وجيراني؟ وأين أذهب؟!. الميدان!. ميدان التحرير!. مهد الذكريات والأحلام العذبة الفائرة كأمواج محيط بلا شطآن!. نسمة الأمل الندية وسط سحب الدخان!. سأتعرف بالتأكيد علي أيهم!.. وقد أجد زوجتي هناك في إنتظاري!. سألت السائق أن يتجه إليه!.. كان شابا في مقتبل العشرينات! .لم يتعرف علي الإسم!. وصفته له.. قال; تقصد ميدان الأسياد!.. لم أصدق أذني, ولكن من الوصف يبدو أنه هو!. فوق الكوبري رأيت مكان نهر النيل!. كان قد إختفي!. وكان الألاف من الأطفال المشردين يلعبون في المياة الضحلة مكانه!. كان الزحام خانقا وسحابة الدخان تجثم علي النفس والسيارات تسير ببطء السلحفاة!. من فوق الكوبري رأيت الميدان أخيرا!. خفق قلبي بعنف عندما رأيت أربعة تماثيل من ذهب خالص يتلألأ وحولهم الألاف من الجنود بمدرعاتهم وعتادهم!.. سألت السائق لمن هذه التماثيل؟ تعجب لجهلي وقال, هذان التمثالان لجلالة الملك وزوجته السيدة الأولي خدوجة!. أما هذا فلوالده المخلوع قديما رحمه الله!. خفق قلبي حتي إنني كنت أسمع دقاته في أذني!. أشرت إلي التمثال الرابع قائلا بوجل ولمن هذا؟. كان تمثالا لرجل نحيل مقتب الظهر قليلا ويرفع يده بالتحية!. فنظر إلي وكأنني أحمق وقال, ألا تعرفه؟ هذا من سلمهم البلد ثانية بعد الإنتفاضة الشعبية القديمة!.. كاد أن يغشي علي ولكننا كنا قد وصلنا إلي مشارف الميدان!. وكانت هناك لجنة أمنية!. إنحني أحد الضباط ونظر إلي من نافذة السيارة!. عندما رأي العصابة علي عيني, جذبني من السيارة بعنف وألقاني علي الأرض!. وهرع إلي زملاؤه قائلين; ثائر!..ثائر آخر! وإنهالوا علي ضربا بالعصي وبالأحذية!. وكانت الشمس قد تسللت بحذر من الكوة الضيقة في سقف زنزانتي الإنفرادية لتوقظني من النوم وكان حضرة الضابط يلكزني بحذاؤه في جنبي قائلا; قم يا سي ثائر, قم!. اليوم دورك لتنظف مراحيض السجن!...