كنت قد حدثتكم من قبل عن إحساسي المهول بالبطالة أمام طلاب ليس لديهم أدني اهتمام بالأدب ولا غيره، مع التذمر الدائم من كل ما يدرسونه. والحقيقة أن الأدب الذي «نحاول» تدريسه قد أظهر هشاشته العظيمة أمام أحداث عابرة تصادف حدوثها أثناء الدراسة، من قبيل مباراة مصر والجزائر، وهوجة إنفلونزا الخنازير. وربما قلت لكم أيضا إننا كمدرسين أصررنا علي المواظبة في تحد كامل لكل هذه العواصف بالرغم من أننا كنا أحيانا نقدم كل الإغراءات للطلاب لكي يوجدوا في المحاضرة، فتحولنا بعد قليل إلي ما يشبه مندوب المبيعات الذي يحاول أن يجمل بضاعته أمام الزبون المفترض. ولأن التمثيلية لابد أن تكتمل فكان بالطبع لابد من الامتحانات التي تتضمن لجانا وطلابا وأوراق إجابة، وهو ما يعني أن هناك مهمة قومية اسمها تصحيح الأوراق. وهنا يبدأ الموسم السنوي للعبث، أو بمعني أصح «موسم الحصاد». عدد الأوراق يفوق الثلاثمائة بقليل، وهو يعتبر عدداً إنسانياً مقارنة بكليات وأقسام أخري. لكن ما أن بدأت التصحيح- بعد قليل من التأمل في المكتوب- حتي أدركت أن إحساسي بالبطالة كان خاطئا؛ فالإحساس الصحيح لابد وأن يتضمن تساؤلات وجودية عميقة مثل تلك التي تغني بها الفلاسفة، علي شاكلة: لماذا أفعل ذلك؟ أو لماذا أنا موجودة؟ أو ما معني مهنة التدريس الآن؟ أسئلة لابد وأن تدفع الإنسان- إذا استغرق فيها- إلي ترك كل شيء واللجوء إلي وسائل ترفيه بسيطة تقتل الوقت، فالتدريس ليس وسيلة ترفيه لكنه يقتل الوقت والحصاد هو العبث. في حواري مع زميلتي التي تشاركني التصحيح قلت لها إننا لو كنا ذهبنا إلي المحاضرات وألقينا نكات أو حكينا حكايات مسلية كانت النتيجة ستكون أفضل بكثير مما رأيته في الأوراق. ثم تذكرت كم الاجتماعات التي عقدناها معاً أنا وزميلاتي والتي كان هدفها تغيير المنهج إلي الأفضل، وابتداع أفضل طرق للتدريس، بالإضافة إلي المادة التي قمنا بجمعها من مختلف الكتب، وعدد الرسائل الإلكترونية الذي تبادلناه.. تذكرت كل ذلك وأنا أتأمل في إجابات (المفترض أنها إجابة) لا تنتمي إلي أي لغة أو منطق أو فكر أو فهم. لا هناك مضمون يجعلني أتغاضي عن الأخطاء اللُّغوية والنَّحْوية، ولا هناك لغة سليمة تجعلني أتغاضي عن المضمون. ولتكتمل لديكم الصورة فأنا أتحدث عن طلاب الفرقة الرابعة! أما المادة فهي مادة النقد، أي عصب الموضوع. وبالنظر إلي فكرة ال80 مليون مصري الذين تحولوا مؤخرا إلي نقاد أدب وسينما ومسرح وفن وكرة قدم أطمئنكم أن المستقبل باهر ومشرق. العقل في إجازة مفتوحة والاهتمام صفر وقرار التفكير معطل منذ زمن. وعندما يكون هناك عشر أو عشرون ورقة جيدة في وسط هذا العدد فلابد أن نقول إن هناك كارثة. وعندما ندرك أن هؤلاء الطلاب علي وشْك التخرج فلا يجب أن نطرح موضوع «سوق العمل» ناهيك عن مستوي الخريج. وعندما نكون علي وعي شديد باللحظة السيئة السوداء التي نمر بها علي المستوي الاقتصادي والاجتماعي لابد أن تضعني الرسالة التي جاءت في إحدي أوراق الإجابة في مأزق شديد. لا تحمل أوراق الإجابة أي أسماء ولكن يفهم من الرسالة التي كتبت داخل الورقة باللغة الإنجليزية (المليئة بالأخطاء) أن صاحبها هو طالب وليس طالبة. تقول الرسالة (والترجمة حرفية): «طلب خاص: عمري ثلاثون عاماً. أعمل لأعيش. حياتي لم تبدأ بعد. لست متزوجا حتي الآن. لا أستطيع أن أبدأ حياتي. ولذلك فمن أجل خاطر الله أريد أن أنجح وأتخرج. أنا آسف. شكرا». ما العمل أمام رسالة مثل تلك بجانبها إجابة لا تسمن ولا تغني من أي شيء. هل ينجح وينضم لكتيبة المتعلم الأمي، هل أتواطأ وأمنحه درجات لا يستحقها؟ هل يرسب ويعيد العام (وربما لا) ولن يتعلم أيضا؟ ما العمل؟ مأزق إنساني، ومأزق تعليمي، ومأزق ضمير. غالبا ما يفكر القارئ الآن أن من حق هذا الطالب أن ينجح لأن البلد كله «كوسة»، ولا معني لتشغيل الضمير مع هذا الطالب بالذات، وأجيب عنه قائلة إن ميزة القسم الذي أعمل به وأفتخر دائما بذلك أن «ضميره» يعمل أربعاً وعشرين ساعة طوال أيام الأسبوع، ويعلن الضمير عن نفسه في رفض بيع ملازم أو كتب ويقومون بالتصحيح- والتدريس من قبل ذلك- علي أكمل وجه. قد يقول قارئ آخر إنه لا معني لكل ذلك في مكان منهار تماما ولا أمل في إصلاحه، فأقول له وما معني إصرارنا إذن علي إصلاحه؟ لنترك الأمر بأكمله. أسألكم مرة أخري: ما العمل أمام مثل هذا النموذج وهو بالتأكيد ليس الأوحد؟ بل هناك مثله الكثيرون.