منذ لحظة فوز فريقنا القومي بكأس الأمم الأفريقية، والمطالبات لا تنتهي في مقالات الكُتّاب والمفكرين ومثقفي المجتمع المصري، تناشد وتنوه وتشرح للقيادة السياسية أن هذا الفوز الذي كان محط أنظار وإعجاب العالم، هو في حقيقة الأمر رسالة مباشرة لهذه القيادة مفادها أن الشعب المصري لديه طاقة وإرادة تفعل المعجزات إذا ما توافرت له قيادة نزيهة حازمة تحسن اختيار اللاعب الأصلح وتؤمن بالعمل الجماعي المنضبط لتحقيق إنجاز حقيقي، وهي مناشدة تنطوي علي أنه مازالت هناك لدي النخب المثقفة بقايا أمل في هذه القيادة لإحداث تغيير إيجابي يستجيب لمطالب بح صوتنا في المناداة بها، وهو أمر مثير للدهشة حقا لا يمكن استيعابه إلا علي طريقة مخرج الروائع حسن الإمام- رحمه الله- حين يتحول الشر والإجرام في أفلامه إلي خير وتوبة نصوحة في لحظة بفعل موقف إنساني مؤثر، حيث تسيل دموع الشرير عتيد الإجرام الظالم والقاتل والمرتشي وتعود كل المياه التي تسربت إلي مجاريها وتعود البسمة والانشراح للمشاهد لينهيا لحظات الحزن والترقب والانفعال التي سيطرت علي حواسه في بداية الفيلم !! أقول إنه مثير للدهشة لأنه يصدر عن مثقفين ومحللين سياسيين مرموقين، يعلمون قبل غيرهم بالتأكيد أن الذي يحكمنا قرابة الثلاثين عامًا، بدأها بشعارات طهارة اليد والشفافية قد أبقي عليها شعارات علي يافطات ضخمة سوداء مصمتة، تعزل ما وراءها من ممارسات ممنهجة أهدرت الثروات وحمت الفساد والمفسدين وعبثت بالقوانين والدستور وتراجعت بمكان ودور أمة كمصر إلي أدراك لم تعرفها حين كانت تحت الاحتلال الأجنبي، نظام يحسن احتقار شعبه ويعاند كل ما يريده هذا الشعب علي طول الخط، كيف يمكن وبأي منطق نطالبه بأن يفكر في دلالة هذا النجاح الباهر الذي أنجزه فريقنا القومي والحماس منقطع النظير الذي أبداه الشعب المصري، لقد رأينا في أعقاب الفوز مشاهد لإعلام الحكومة وخطابه التافه وهو يحاول إلصاق هذا النجاح بأفراد الأسرة الحاكمة ويسلط علي وجوههم الأضواء بخلفية أغنيات ركيكة ساذجة، يسمونها وطنية أو قل وطنيتهم!! باعتبارهم رموز مصر !، مصر المنهوبة من رأسها حتي أخمص قدميها، يحضرني هنا واحد من أدق التعليقات التي قيلت علي الإطلاق في وصف ما نحن فيه الآن علي لسان الأديب المبدع الدكتور علاء الأسواني وهو يشّبه الواقع المصري بملعب الكرة، كل اللاعبين الموهوبين فيه علي دكة الاحتياطي بينما يلعب في الملعب أنصاف وأشباه الموهوبين ومن لا علاقة لهم باللعب أصلا لكنهم باقون لأن المدرب يحبهم، نعم مدربنا يكره الموهوبين و النابهين والغيورين علي الوطن والحاملين همومه في عروقهم، الغاضبين لمحنته في ظل حكمهم والرافضين السكوت والجاهرين بالغضب والمستعدين لدفع الثمن هؤلاء أعداء من يحكموننا، يجيشون لهم الأمن المركزي وأمن دولتهم ليحاصروا النظرات ويسجلوا الكلمات ويقفوا علي أهبة الاستعداد لسحق الخطوات!! كان يتمني الحزب الحاكم أن يحظي ولو بواحد علي مليون من هذا الفرح والحماس الذي أبداه المصريون بصدق كامل بعد المباراة، تأييد فضح وأوضح في نفس الوقت، حجم التباعد والغربة والنفور الحاصل بين الشارع المصري وحكومته المستبدة، لم يكن انتصارا كرويا فقط بل كان رغبة دفينة ومكبوتة بفعل صمت الحملان الذي اتخذه غالبية المصريين وسيلة خرساء للتعبير عن رفضهم السلطة، أرادوا بهذا الإنجاز الذي حققه شباب جاءوا من قراهم ونجوعهم وفقر عيشتهم وأسعدوه ،أرادوا الخروج علي صمت الحملان بالصيحات المدوية بفرحة كبيرة عجزت الحكومة بحزبها المسيطر ومددها المتعاقبة وسلطتها اللامحدودة عن أن تحققه لهم.