خطرت لي فكرة هذا المقال عندما رأيت صورة قديمة لحاكم مصر المخلوع, بالصدفة علي الإنترنت. كانت صورته هو وزوجته عندما حضرا مباراة كرة القدم في نهائي كأس إفريقيا في العام .2006 وكانت أسماك البحر الاحمر لم تنته بعد من أدسم ولائمها من لحم ضحايا عباره السلام 98. في مشهد عميق يدل علي حكمته عندما حولنا في عهده من شعب يأكل السمك إلي شعب يأكله السمك!!. وبينما كان مولانا ينقش أسمه علي جدران قاع مزبلة التاريخ, كان هناك في بلدان أخري, وبالتحديد في شيلي, حكاما, يحفرون أسماءهم علي قمة صخرة المجد بحروف من ذهب متلألأ بنور. يعلون من شأن بلدانهم ويرفعونها. ينهضون بها ويقفزون معها بطموحهم الوثاب عاليا. في حين تظل مصر العقول والموارد والحضارة والبشر قابعة في أسفل السافلين تحت حكم عصابة المجرمين وحكمة زعيمهم الأثيم!. فماذا إذن حدث في البلدة البعيدة الواقعة في أقصي غرب أمريكا اللاتينية علي شاطيء المحيط الهاديء, شيلي؟. في عصر يوم من أيام شهر أغسطس في العام 2010 , وبالتحديد في الساعة الثانية من بعد ظهر الخامس من الشهر وفي العام المذكورين, إنهار منجم "سان خوزيه" للذهب والنحاس الواقع في صحراء "أتاكاما" في شمال شيلي. انهارت الصخور المقدر وزنها بسبعمائه ألف طنا! 1, لتغلق المخارج والمداخل ولتحبس في طيات الأرض ثلاثة وثلاثين عاملا من عمال المناجم علي عمق سبعمائة مترا تحت سطح الارض وعلي بعد خمسة كيلومترات من مدخل المنجم الحلزوني!. قطع رئيس البلاد "سباستيان بينيرا" رحلته الرسمية خارج البلاد ليذهب الي موقع الكارثة في الصحراء. وكان أول الظن ومع مرور الوقت أنه من المستحيل وجود أحياء علي قيد الحياة. ولكن محاولات الإنقاذ بدأت ولم تتوقف. وبإستخدام الحفارات الضخمه كمجسات , وبعد صعوبات كثيرة نظرا لقسوة الصخور وعدم وجود خرائط حديثة للمنجم وحدوث إنهيار ثان لاحقا, تم حفر سبعة آبار, كل بئر بقطر ستة عشر سنتيمترا, علي أمل ان يصلوا الي موقع العمال المحتجزين ولكن بلا جدوي. ويهل بصيص من نور في الثاني والعشرين من أغسطس بعد سبعة عشر يوما من الكارثة, عندما تم حفر البئر الثامن. فقد سمع عمال الإنقاذ ماظنوا انه طرق علي الحفار وقتها, فلم يصدقوا أذانهم نظرا لطول المدة من بعد إنهيار المنجم وإنعدام الأمل في وجود أحياء!. ولكنهم سحبوا الحفار ليعود وعلي طرفه وريقة ملتصقة به, مكتوب باللون الأحمر عليها; نحن بخير في المخبأ.. امضاء الثلاثة والثلاثين!. بعدها بساعات قليلة, تم إرسال كاميرا فيديو وتم بث أول صور لعمال المنجم الأحياء. وقد عرفنا فيما بعد أن المخبأ كان علي مساحة حوالي الخمسين مترا مربعا. وكانت كميات الطعام والماء لاتكفي أكثر من ثلاثه أيام علي الأكثر ولكن بالتقسيم العادل دامت لأكثر من أسبوعين وقد أنتهت تماما قبل العثور عليهم بقليل. وقد فقد في أسبوعين كل منهم حوالي الثمانية كيلوجرامات من الوزن. وقد أتفقوا أنه لامناص لهم إلا أن يظلوا يدا واحدة حتي النهاية, وأقسموا جميعا أن يظل ماحدث لبعضهم من إنهيارات وأزمات نفسية سرا فيما بينهم لا يفشي2 . وقد بدأت سيمفونية العمل علي إنقاذ العمال مباشرة. فكان الأمر من رئيس شيلي بتكليف أكبر الشركات والبذل في الأموال والإستعانة بالخبرات حتي يخرج هؤلاء العمال سالمين. وقد تم إمداد العمال بالماء والطعام الساخن والأدوية اللازمة ووسائل الترفيه والأناجيل والصلبان والملابس عن طريق أنبوب قطره 17 سنتيمترا والتواصل معهم عن طريق الرسائل والفيديو.. إلخ. وقد جاء الآلاف من أهالي العمال وأهل شيلي إلي الموقع والذي تم بالتدريج تحويله الي شبه مدينة صغيرة بالمستشفى الميداني والمطاعم والخيم والحراسات والنصب التذكارية والتماثيل والأعلام..إلخ.2 وقد تم وضع ثلاث خطط لحفر نفق. اكتملت منهم الخطة ب وتم حفر نفق طوله 700 مترا يصل الي العمال. وفي نفس الوقت تم صنع كبسولة من الفولاذ أطلق عليها إسم "فينكس 2", بطول حوالي الأربعة أمتار وقطر ستون سنتيمترا فقط, بداخلها كاميرا فيديو للمراقبة ووسيلة إتصال ومصدر للأكسيجين وأجهزه رصد للضغط والنبض..إلخ...1 وفي الثاني عشر من أكتوبر, أي بعد تسعة وستين يوما من إنهيار المنجم, نزلت الكبسولة فينكس 2 وفيها عامل الإنقاذ "مانويل جونزليز" في تمام الساعة 23:18 مساء بتوقيت شيلي .مودعا بالآلاف من الشيليين وهم يحيونه وينشدون له النشيد الوطني الشيلي. وقد أستغرقت الرحلة الأولي 18 دقيقة, ليلتقي في المنجم بالعمال المحتجزين في تمام الساعه 23:36 , لتبدأ رحله الإنقاذ. وعندما خرج أول عامل من الكبسولة أنطلقت جموع الشعب هاتفة; شي, شي, شي, لي, لي, لي!! وصدحت أبواق السيارات في كل شوارع شيلي وفي سانتياجو العاصمة. وقد أصدر عمدة إحدي البلدان القريبة الأمر بإغلاق المدارس حتي يتسني للكبار والصغار مشاهدة عملية الإنقاذ بكاملها من دفء منازلهم.2 وقد حضر رئيس شيلي "سباستيان بينيرا" عملية الإنقاذ كاملة والتي امتدت علي مدي الليل واليوم التالي حوالي 23 ساعة حتي انتهت في العاشرة من مساء الثالث عشر من اكتوبر. وقد صافح رئيس البلاد بنفسه كل العمال المحتجزين واحدا واحدا عند خروجهم من الكبسولة!. وقد شاهد عملية الإنقاذ هذه مايقدر بأكثر من بليون مشاهد في جميع أنحاء العالم. ونصل إلي ذروة السيمفونية عندما ينشد رئيس البلاد ومعه الثلاثة والثلاثين عاملا النشيد الوطني الشيلي ومعه أهل شيلي كلهم, ثم يخطب في أهل وطنه قائلا; " أنكم لن تكونوا أنفسكم بعد الآن وشيلي أيضا لن تكون نفسها بعد الآن!". وأضيف أنا من عندي قائلا; وأنت أيضا ياسيدي الرئيس لن تكون نفسك بعد الآن! .بعد أن حفرت إسمك بالذهب والنور في صفحات التاريخ الإنساني. وأرتفعت, فجلست علي قمة جبل المجد عندما شعرت بالآم البشر من شعبك وعندما سخرت كل القوي المتاحة لإنقاذ حياة ثلاثة وثلاثين عاملا بسيطا من عمال المناجم. وأبيت أن تجلس علي مقعدك الوثير في قصرك لتشاهد أحدث الافلام أو لتذهب للإستاد لمشاهدة مباراة في كرة القدم!. وتكفي صورتك وأنت تمسح دموع نجل أحد العمال, تضمه إليك, تهديء من روعه وهو يلتف بعلم الوطن ملتاعا, يحلم برؤية والده. ينتظر علي أحر من الجمر لحظة خروجه من القبر!. وآثرت ان توصل الليل بالنهار حتي تصافحهم واحدا بعد الآخر ويكون لك حق قيادتهم وأن تنشد, فيلبوا, وينشدوا ورائك نشيدهم القومي!.. ونأتي إلي ختام السيمفونية الرائعة عندما تغلق بنفسك فوهة البئر بغطاء من فولاذ معلنا إنتهاء العملية "سان لورنزو" بنجاح. وعندها يتوجه أحد العمال الناجين ليسأل عامل الإنقاذ "جونزليز" والذي كان آخر من خرج من المنجم. يسأله أعجب سؤال, سؤال لايخطر علي بال أحدكم. يطمئن به علي منجمه الذي سجن فيه سبعين يوما. ليطمئن قلبه علي قطعة من أرض وطنه, علي مصدر رزقه الذي طعم منه طوال عمره. لايبالي بأهله المنتظرين الملتاعين ولا يأبه لكاميرات الشهرة, يتركهم ويتوجه له فيسأله بتلقائية; هل أطفأت أنوار المنجم قبل أن تصعد؟!1.... وتنتهي سيمفونية رائعة في حب وطن..