لم تكن هذه هى العملية الأولى، ولكنها قد تكون الأخيرة.. فقد قرر النظام السابق من قبل أن يغض الطرف عن العديد من عمليات الإغتيال التى طالت الجنود المصريين المرابطين على الحدود مع إسرائيل دون أن يجرؤ حتى على مجرد دعايا الشجب أو الإستنكار التى كان لا يقوى على غيرها . من الممكن أن يكون الهجوم الذى شنته مجموعة من المسلحين على حافلة إسرائيلية والتى راح ضحيته ما يقرب من الثلاثين بين قتيل وجريح هو السبب الرئيس للعنف الذى حدث على الحدود يوم الخميس الماضى، ولكن هذا لا يمحو الشكوك من أن إسرائيل تمتلك بالفعل مخططات مسبقة للسيطرة على شبه جزيرة سيناء، أو بعض أجزاء منها . ينبغى إذن أن ننظر أولا إلى التطورات التى حدثت على مسرح الأحداث فى سيناء عقب قيام الثورة، وما نتج عن فتح السجون وهروب الألاف من عتات الإجرام والمتطرفين وتجار البشر والمخدرات.. فمن المعروف أن النظام السابق قد حاول طوال فترة حكمه أن يجعل من سيناء ملفا أمنيا وسياحيا فقط، وتعمد إغفال مطالبات القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدنى المستمرة بضرورة البدء فى وضع خطط مستقبلية تهدف إلى إنشاء مشروعات تنموية للنهوض بالمنطقة من الناحية الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، وتهدف أيضا إلى دمج القبيلة البدوية السيناوية وجعلها جزء لا يتجزأ من المجتمع المصرى.. ومن ثم خلق عمقا إستراتيجيا مهما فى المنطقة التى تعتبر خط الدفاع الأول للبلاد . فبعد الإنفلات الأمنى الذى نتج عن إنسحاب الشرطة – التى مازالت منسحبة حتى الأن – قامت هذه المجموعات بتكوين بؤر لها فى وسط سيناء، وإتخذت من مغارات جبل الحلال القريب من منطقة الحسنة والمناطق المحيطة به نقطة إنطلاق لتنفيذ عملياتها الإجرامية فى المدن، نظرا لوعورة التضاريس وتشعب الوديان فى هذه المنطقة.. كما إستطاعت الجماعات الجهادية والتكفيرية تجنيد عدد كبير من الشباب وتسليحهم، حتى نجحت فى تشكيل جيش من الميليشيات المجهزة بأحدث أنواع العتاد يصل قوامه إلى 6 ألاف فرد، إختاروا أن يعلنوا عن أنفسهم بقوة فى عملية قسم شرطة العريش الأخيرة، التى أوضحت للجميع أن العقد بدء فى الإنفلات فى سيناء، وأيضا بعد ظهور تشكيل من التكفيريين يطلق على نفسه " تنظيم القاعدة فى شبه جزيرة سيناء " الذى دعى وبكل وضوح إلى تحويل سيناء إلى إمارة إسلامية، والإنفصال بها عن باقى القطر المصرى . كانت إسرائيل تراقب عن كثب كل ما يحدث فى سيناء، وكانت تعد الخطط التى من المحتمل اللجوء إليها فى حالة فشل الجانب المصرى فى السيطرة على الوضع الأمنى هناك، وبالطبع كان المجلس العسكرى على دراية كاملة بنوايا الكيان الصهيونى الخفية تجاه هذه البقعة الإستراتيجية الهامة من أرض الوطن، ويدرك أيضا أن إسرائيل تنتظر الفرصة السانحة للإنقضاض عليها، والتوغل ولو لبضعة كيلومترات بداخلها بحجة عدم قدرة الجانب المصرى على السيطرة على الحدود وإقرار الأمن فى المنطقة.. لذا قرر المجلس العسكرى القيام بالعملية الأمنية " نسر " بهدف – معلن - وهو تطهير المنطقة ممن يهددون أمن البلاد القومى . لا يجب أيضا أن نستبعد إحتمال أن عملية إيلات قد تكون مفتعلة من الجانب الإسرائيلى، حيث أنها تأتى بالتزامن مع تصاعد حدة الإحتجاجت داخل إسرائيل ضد الجكومة الحالية، لذا كان من الضرورى شغل الرأى العام الإسرائيلى وتهدئة الأجواء فى الداخل، وهو ما نجحت فيه بالفعل عندما قرر بعض قادة الحركة الطلابية إلغاء بعض المظاهرات التى كان من المقرر خروجها يوم أمس بسبب هذه العملية.. ولكن بدلا من مجرد إلهاء المحتجين وصرفهم عن الإحتجاج ضد نتانياهو، فإن إسرائيل إرتكبت خطأ فادحا عندما قامت قواتها بإطلاق النار على خمسة جنود مصريين أثناء تتبع منفذى عملية الحافلة . هذه هى الرواية التى تبناها عدد من المحللين الذين أختلف معهم بالطبع فى طرحهم لهذه الفكرة، لأننى أعتقد أن إسرائيل قررت أن تفقد صوابها بشكل كامل وأن عملية قتل الجنود المصريين كانت متعمدة . لعل السؤال الذى يدور فى ذهن القارىء الأن هو : ما الذى يدفع إسرائيل على القدوم على مثل تلك الخطوة وخاصة بعد سقوط حليفها المخلوع الذى كان يتقبل مثل هذه الضربات ولا يبالى ؟! من الممكن أن تكون الإجابة محيرة إلى حد ما عندما تعلم أن السبب من وراء عملية كهذه هو بالأساس سقوط النظام السابق، فإسرائيل تتبع الأن سياسة جس النبض عن طريق إطلاق إحدى بالونات إختبارها المتمثلة فى هذه العملية بهدف قياس ردة الفعل التى قد تصدر على المستوى السياسى والدبلوماسى والشعبى أيضا . بمناسبة الحديث عن ردة الفعل أعتقد أن إسرائيل لم تتوقع هذا الرد العنيف الذى صدر على جميع المستويات، وخاصة الرد الرسمى الذى تبلور بعد عدة إجتماعات ومناقشات فى قرار سحب السفير المصرى فى تل أبيب، وإستدعاء السفير الإسرائيلى فى القاهرة للتعبير عن الإحتجاج والتململ الذى أصاب القيادات العليا فى الحكومة المصرية مما حدث على الحدود بين البلدين، وما تبعه من تصريحات هوجاء من قبل المسئولين الإسرائيلين تعقيبا على الحادث . لا شك أن المجلس العسكرى يمر الأن بمرحلة هى الأصعب منذ توليه إدارة البلاد بعد الإطاحة بالرئيس المخلوع ونظامه، ولا شك أيضا فى أنه يعى تمام ماذا ينبغى عليه فعله فى هذه الأوقات الحساسة التى تحتاج منه قدر كبير من الإتزان وضبط النفس.. فمع إقتراب الإنتخابات التشريعية نجد أن البلاد مازالت تعانى إنفلاتا أمنيا وسياسيا قد يكون السبب فى تأجيل الإنتخابات المزمع إنعقادها فى نوفمبر المقبل إلى أجل غير مسمى، وخاصة مع إتساع الفجوة بين القوى المختلفة على الساحة السياسية، ومحاولات أذناب النظام الساقط المستمرة فى الركوب على الثورة والرجوع بها إلى نقطة البداية . أما على الصعيد الخارجى فحدث ولا حرج، فتشبث العقيد معمر القذافى بالسلطة قد أدى إلى نشوب حرب أهلية على حدود مصر الغربية، وبالتالى تأثر مصر إقتصاديا وسياسيا وأمنيا مع دخول كميات كبيرة من الأسلحة القادمة من الحدود الليبية إلى الداخل المصرى.. أما إنقسام السودان على الحدود الجنوبية فقد نتج عنه ضرب جميع مساعى التسوية التى تسعى إليها مصر مع دول حوض النيل فى مقتل، وهو ما يترتب عليه تهديد أمن مصر المائى تهديدا مباشرا.. وها هو العدو على الحدود الشرقية يقيس مدى الإستقلالية التى وصلت إليها البلاد بعد قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير، عن طريق النبرة الحادة فى الخطاب الذى يصدر عن المسئولين هناك والذى تصاعدت وتيرته فى الفترة الأخيرة، وإن كان لا يوجد هناك ما يمنع أيضا من قنص عدد من الجنود المصريين لقياس – كما أوضحنا من قبل – ردة الفعل التى قد تنتج للتنديد بهذه الأفعال . أرى أن المجلس العسكرى إذن قد أنجز الخطوة الأولى التى من المتوقع أن تصدر عنه فى هذا الموقف العصيب، وهو الرد بشكل مناسب على مثل هذه الإستفزازات والتى جاءت فى صورة سحب السفير المصرى فى تل أبيب، والإحتجاج الرسمى لدى الحكومة الإسرائيلية، وإصدار الفريق سامى عنان رئيس أركان حرب القوات المسلحة أمر مباشر بإطلاق النار على كل من يتخطى الحدود المصرية . تكمن أهمية هذه القرارت فى المغزى المراد من وراء إتخاذها وهو توصيل رسالة إلى العدو الصهيونى بأن مصر بدأت فى أن تخطو خطا جدية بالفعل نحو تغيير شكل ومضمون العلاقة التى تجمع الطرفين، وإتخاذها منحا أخر يعتمد على التوازن والندية، بدلا من العلاقة المرضية التى رسمها الرئيس " النطع " حسنى مبارك من قبل و التى كانت تقوم على التبعية وطاعة الأوامر. أما الخطوة الثانية التى يجب أن يقوم بها المجلس العسكرى الأن فهى محاولة الجلوس على مائدة الحوار وتقريب وجهات النظر بين القوى السياسية المتناحرة والوقوف على نقاط الأختلاف والسعى إلى التوصل إلى صيغة توافقية حولها فى أسرع وقت ممكن، وهو الدور الذى يلعبه الأزهر فى الوقت الحالى الذى يستمع بكل حيادية وموضوعية إلى جميع وجهات النظر حول وثيقة المبادىء الدستورية التى طرحها للنقاش العام . أما من الناحية الإستراتيجية فإن مصر الأن تمتلك فرصة ذهبية تستطيع بها أن تقلب السحر على الساحر عن طريق إستغلال الإدعاءات الإسرائيلية حول غياب السيطرة الأمنية على سيناء بأن تسعى إلى زيادة عدد القوات والمعدات المتمركزة على الحدود، بإعتباره أيضا حق أصيل فى دفاع مصر عن أراضيها خاصة مع تصاعد حدة التوتر بين الجانبين.. فهل سوف تشهد الفترة القادمة تصعيدا عسكريا بين الطرفين قد يشكل الورقة الأخيرة التى تلجأ إليها حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية لتحقيق أهدافها فى التدخل فى سيناء؟.. أم أن هذه الفكرة تبدو بعيدة عن الحلول التى قد يلجأ إلى تطبيقها الجانبين على الأرض لتفادى الصدام العسكرى، فى ظل الثورات التى تعصف بالمنطقة المحيطة بهما، وتوقع أن تطال نسائم الربيع العربى دول أخرى كانت ومازالت تعتقد أنها تقف على مسافة بعيدة عن هذه الأعاصير.. وفى مقدمتها الكيان الصهيونى نفسه ؟!