لا شك أن الإنغلاق المجتمعى والكبت الدينى الذين فرضتهما الكنيسة على المجتمعات الأوروبية فى العصور الوسطى قد أديا إلى الإنفجار السياسى والمجتمعى الكبير الذى عاصرته معظم الدول الأوروبية فى ذلك الوقت.. ساعده فى الإنتشار ظهور الفكر الماركسى وما نتج عنه من محاولات تنحية الكنيسة، وتقليص دورها السياسى والحد من تأثيرها بشكل أو بأخر على أنظمة الحكم المتعاقبة . شكلت تلك الظروف التى مرت بها هذه المجتمعات التربة الخصبة التى ساعدت على ظهور التيار الليبرالى إلى الوجود، ومن ثم وجد فيه الأوروبيون فرصة ذهبية للإبتعاد عن كل ماهو كنسى نتيجة ما يحملونه من نظرة سلبية مسبقة لهذا الكيان والقائمين عليه، وأيضا كوسيلة للتخلص من العيوب الجوهرية التى ظهرت عند تبنى هذه البلدان للفكر الماركسى ونظريته الإقتصادية التى عرفت فيما بعد بالإشتراكية . من هذا المنطلق نجد أن ما مرت به الشعوب الغربية من مراحل التطور الإنسانى ترتكز على نفس المحاور الرئيسية التى تلعب دورا مهما فى توجيه مراحل التطور التى يمر بها المجتمع المصرى الأن، مع إختلاف الفلسفة الحاكمة التى يحاول كلا من المجتمعين التخلص منها، ومع تباين الدور الذى يلعبه التيار الدينى فى كلا من الحالتين.. فنجد أن التيار الدينى الأوروبى – الكنيسة – قد تحول – بفضل الثورة – من القوة الحاكمة المسيطرة الملهمة إلى حالة من الصمت والسكون المصحوبة بالتهميش، على عكس التيار الدينى بشقه الإسلامى فى مصر الذى إنتقل – أيضا بفضل الثورة – من العزلة المجتمعية والإنزواء السياسى، إلى الإنخراط فى الصراع الأيدولوجى، وأيضا تبنى أيدولوجية الصراع . نتج عن ذلك بالطبع حالة الإستقطاب الواسعة التى يعيشها المجتمع المصرى الأن، كنتيجة طبيعية لحالة التنافسية المبنية على المغالبة، والتى نراها تسيطر على جميع التيارات الفكرية والتوجهات الأيدولوجية المحركة للقوى المختلفة على الساحة السياسية . ظهر ذلك بوضوح بين التيارين الليبرالى والإسلامى . والحقيقة أن كلا التيارين يتفق مع الأخر فى أمور جوهرية قد لا تكون واضحة لإنعدام الرؤية التى تتميز به هذه المرحلة، ولكن تبقى المسافة التى تفصل بين المرجعية الملهمة لكلا منهما كبيرة إلى حد بعيد.. فإذا كان التيار الإسلامى يتخذ من المرجعية الدينية الإطار الوحيد له، فإن الفكر الليبرالى يرى فى الغرب المرجعية الحضارية الوحيدة له . ولعل المنهج التحليلى الغربى، والوضعية المنطقية بوجه خاص هى أبرز ما يميز المدرسة الليبرالية الحديثة، التى لا تنفى عن نفسها الميول الطبيعية للقومية التى تعد من أهم مكونات المجتمع المصرى، ولكنها فى الوقت ذاته تحاول إيجاد طريقة تلتقى بها أوصولنا الموروثة مع ثقافة العصر الذى نعيش فيه.. وهو ما قد لا يتفق مع العقل الجمعى المحرك للتيارات الدينية بصفة عامة، والذى يتجه بطبيعته نحو الميل إلى الماضى والعودة إلى الجذور ومحاولة الإقتباس والتطبيق، التى لا تخلو من الإجتهاد إن أمكن، بحيث لا يتنافى ذلك مع تطلعهم نحو متطلبات العصر الحديث، وإنما يحيط هذا التطلع نوع من الإنتقائية الإجرائية ومراعاة البعد الروحى . إلى جانب قضية "الأصالة والمعاصرة" يظهر محور خلافى أخر يخضع لقيود المجتمع الشرقى طبقا لطبيعته التى تجعل منه نقطة إختلاف من الناحية النظرية البحتة، والتى يمكن التوافق حولها على أرض الواقع : وهى نظرة كلا من التوجه الليبرالى والمرجعية الإسلامية "للفرد" الذى يشكل العنصر الأساسى لبناء ثقافة المجتمع . فكما تنظر القوى الليبرالية للفرد على أنه كيان مستقل يمتلك حرية مطلقة فى إطار من التسامح وقبول الأخر.. فإن التيارات الدينية بجميع أطيافها تميل إلى أن الفرد هو جزء من الجماعة، وترى أن الحرية الإيجابية تتخطى فكرة قبول الأخر إلى الحفاظ على المكتسبات الموروثة للمجتمع المحيط به . هذا إختلاف طبيعى نتيجة للتباين الجوهرى بين الإتجاهين، ولكننا – كما أسلفنا – يمكن أن نصل إلى توافق لا يتعارض مع الطرح السابق لكلا التيارين بحيث يكون مبنيا على نظرة موحدة " بأن الفرد غاية فى ذاته، وعضو فى مجتمع فى أن واحد" . وقد تبلور هذا الخلاف وبدا واضحا فى الصراع المحتدم بين القوتين حول المرجعية التى سوف يستند عليها الدستور الجديد، والحيرة بين تمسك البعض بالمبادىء الفوق دستورية، ورفض البعض الأخر لها . ولكن فى الواقع فإن مصر تختلف إختلافا جذريا عن تلك المجتمعات التى تخلصت من جميع القيود والعادات التى تتسم بشىء من المحافظة، وإنطلقت نحو الإنفتاح الإقتصادى والإجتماعى والسياسى من دون رقابة.. فلا يصح مثلا أن نرى القوى الليبرالية تلقى بإتهامات التخلف والرجعية على كل ما هو إسلامى، منتهجة فى ذلك نفس الطريقة التى طبقها أتباع التاتشرية البريطانية، والريجانية فى الولاياتالمتحدة فى حربهم على الإسلام بصفة عامة، كما أنه من غير المنطق أن تتهم الجماعات الإسلامية كل من يخالفها فى الرأى بالتكفير والخروج عن الشرع والعداء لله – عز وجل – وخاصة عندما يحدث ذلك فى بلد غالبية سكانه من المسلمين . قد يفسح هذا المجال أمام إعتقاد البعض أن نقاط الخلاف بين الفريقين هى الغالبة على علاقتهما ونظرة كلا منهما للأخر، وقد تكون هذه النقاط أكثر من نقاط التلاقى، ولكنها – فى حقيقة الأمر- تبرز خلافا وهميا، ناتجا فى الأساس عن سياسية الإقصاء التى يحاول إستخدامها كلا من الطرفين لتحقيق مكاسب معنوية على حساب الطرف الأخر، فليس كل من يتبع التيار الليبرالى كافرا، ولا كل ما هو إسلامى رجعيا أو متخلفا.. كل ما فى الأمر هو عدم محاولة كلا الطرفين التفكير خارج الصندوق الذى حشرنا أنفسنا بداخله، والتقاعس عن مجرد التفكير فى التوصل إلى درجة من التوافق تسمح بالحوار، وإن أدى ذلك إلى ميلاد تيار جديد يمكن أن نطلق عليه " الليبرالية الإسلامية أو الإسلام الليبرالى " الذى سوف يعبر فى النهاية عن إعتراف صريح من كلا الطرفين بالأخر، ومن ثم التوحد و دفع المجتمع بأثره إلى تحقيق الأهداف التى قامت من أجلها الثورة .