بالنسبة لي، جاءت هذه الأغنية في وقتها تماما، وقدّمت لي الإجابة التي لم أجدها، فمنذ فترة انشغلت بالقراءة عن تاريخ المدَنِيَّة ونشأة الحضارات التي خطفني "ول ديورانت" لقصته الطويلة عنها؛ حيث يقسّم المؤرخون وعلماء الأنثروبولوجيا حياة الشعوب إلى مراحل عامة، وأحيانا يسمّون هذه المراحل وفقا للنشاط الاقتصادي الغالب عليها، مثلا: مرحلة الصيد ثم الرعي ثم الزراعة ثم الصناعة... وحين غلبني بعض الاكتئاب مؤخرا، خطر لي خاطر شرير هو: ما الاسم الذي سيطلقه المؤرخون بعد مئات السنين على مرحلتنا المصرية الراهنة؟ الحقيقة لم أجد اسما يشفي غليلي، وبينما كنت أتصفح صفحة كلنا خالد سعيد، فاجأتني هذه الأغنية البديعة كلاما ولحنا وأداء وإخراجا؛ إنها أغنية "استعباط"... قلت لنفسي: وجدتها!! إنها فعلا مرحلة "الاستعباط" في التاريخ المصري الحديث. أرجوك عزيزي القارئ ألا تحرم نفسك من سماع هذه الأغنية التي ستقول لك كثيرا مما كنت تشعر به في الأيام الماضية: http://www.youtube.com/watch?v=3qQVoLI-PiY الآن أدعوك إلى أن تفكر معي في عنوان يلخص هذه الأحداث: - بأي صفة يمكننا أن نصف بيان المجلس العسكري رقم 69 الذي يصف فيه حركة 6 إبريل بأنها تسعى للفتنة وبأن معها أجندة خاصة... ليعود المجلس إلى ااجترار قاموس مبارك في وصف معارضيه، باستثناء وجبات الكنتاكي التي لم يتهمنا بها المجلس حتى الآن؟ ما هي بالضبط فكرة المجلس عن 6 إبريل وعن معارضي مبارك؟ أليست فكرة أمن الدولة بحذافيرها أم أنني لا أفهم رأيه بوضوح؟ - ثم كيف نسمي حكم محكمة الاستئناف بوقف حكم رفع اسم مبارك وزوجته عن المنشآت والمصالح العمومية، بعد هذه الثورة الشعبية العارمة ضده. هذا الحكم يلخص للمرة المائة مأزق ثورتنا: عجز قيادة البلد على كافة مستوياتها عن تفعيل إرادة الشعب واستماتة الثوار بعد خلع مبارك من أجل تحقيق المراحل الأولى البسيطة من مطالبهم البديهية، مع انشغال النخبة السياسية وقيادات القوى السياسية بالصراع الأحمق على تورتة الثورة التي لم تخرج بعد من الفرن، والانشغال بالبرامج الفضائية وانتقاء البدل والكرافتات وعلك العبارات الجاهزة أمام الكاميرات. - أدعوك أيضا يا عزيزي إلى البحث عن عنوان لأداء الدكتور شرف (وهو الرجل النزيه الشريف) في اختيار تشكيله الوزاري الجديد بما تضمنه من ملهاة وزارة الآثار ومأساة وزارة الاتصالات بعد إقصاء الوجه الثوري الأجمل عنها (الدكتور حازم عبد العظيم) بسبب خبر تافه من تأليف وإخراج أمن الدولة وإنتاج اليوم السابع خصيصا لتخويف الدكتور شرف من اختيار الدكتور عبد العظيم، ثم لا يستحي خالد صلاح من الاتصال ببرنامج 90 دقيقة ويكذب على الهواء مباشرة قائلا إن اليوم السابع لم ينشر ما يفيد بأن الدكتور عبد العظيم التقى بالممثل الإسرائيلي بينما الخبر أمامنا ينص على ذلك صراحة، ما هذه البجاحة؟ وما هذا الاستعباط؟ لا أريد الخوض في تفاصيل الواقعة وتحليلها لاستنتاج الدور الذي تقوم به اليوم السابع ضد الثورة، لكنك تستطيع يا صديقي أن ترى التفاصيل على هذين الرابطيْن لتحكم بنفسك: http://www.youtube.com/watch?v=y8sbW_9pef8 http://www.youtube.com/watch?v=EcBWqitjxmE "يوماتي بافطر أمل واتعشى بالإحباط خيبتي بتركب جمل ودمي ريحته شياط" - تحمّلني مرة أخرى أرجوك وفكّر معي في عنوان يصف هذا الاستقطاب والاستعداء الكريه الذي بدأتُ أخاف على الثورة من شره. أريدك أن تفكر معي في سيناريو يوم الجمعة القادمة؛ حيث تستعد الجماعة الإسلامية بأطيافها المختلفة (حتى الآن تدرس جماعة الإخوان قرار المشاركة) لمظاهرة كبرى تستهدف وفق بيان الجماعة إعلان موقفها من الثوار في التحرير الذين هم قلة من العلمانيين الكذا وكذا... ولا أريد تكرار الاتهامات لأنها معلنة في البيان، والأخطر هو إعلان الجماعة عن التوجه لميدان التحرير ليعرف المعتصمون فيه بأنهم قلة وشرذمة مرفوضة، ثم يرد ثوار التحرير ببيانات نارية متشنجة معلنين عدم التنازل عن الميدان بأي حال لهم، ويصرح أهالي الشهداء بالحسبنة على الجماعة الإسلامية.... لا أخفي أنني أفكر بقلق شديد في سيناريو الجمعة القادم، وأطرد من ذهني الخواطر المزعجة عن حدوث صراع واشتباكات بين الثوار والجماعة الإسلامية. يا إلهي!! هل يتمنى مبارك نظامه نتيجة غير هذه نقدمها لهم بأيدينا؟ (خاصة لو اشترك الإخوان ضد الثوار). الليبراليون -رغم انحيازي للكثير من أفكارهم بعيدا عن قياداتهم- مسئولون أيضا عن ذلك الاستعداء بشكل ما، منذ بدأت نغمة تخوين الإخوان والقوى الإسلامية التي بلغت ذروتها بطرد الشيخ صفوت حجازي من الميدان؛ الشيخ صفوت حجازي الذي أختلف معه في 90% من آرائه، لكن ال 10% الباقية هي التي جعلته يناضل مع شباب التحرير باختلاف انتماءاتهم في موقعة الجمل، هذه ال10% المدهشة هي التي جعلتني في نفس اليوم أقف صفا واحدا مع شباب لا أعرفهم لصد هجمات البلطجية على متظاهري ميدان محطة مصر بالإسكندرية، لم أجد وقتا لأسأل إخواني في الثورة عن انتماءاتهم لأحدد من سيقف جانبي ومن سيقف في صف آخر؛ كنا جسدا واحدا يدافع بقوته الجمعية الهائلة عن ثورته النبيلة، هذه ال10% الساحرة التي بيننا منعتني من النوم ليلة الخميس 3 فبراير خوفا من ضياع ميدان التحرير من أيدينا بعد اشتداد هجمات البلطجية والقناصة، تقلّبتُ في سريري شاعرا بالخجل من وجودي في هذه الليلة بعيدا عن ميدان التحرير، ثم قمتُ يائسا من النوم وجلست أمام شاشة الكمبيوتر، ورأيت هذا العنوان على موقع الجزيرة نت "الثوار يستعيدون ميدان التحرير" فبكيتُ من الفرحة ومن العجز عن عمل شيء لهؤلاء الأبطال، ظللتُ أكتب على صفحتي وصفحات أصدقائي بأننا (والحقيقة أنهم كانوا هم وليس نحن) يجب أن نصمد في الميدان حتى مليونية الجمعة التي ستؤكد انتطارنا لأن فقدان الميدان معناه ضياع ثورتنا. وبعد الفجر نمتُ وبمجرد أن فتحت عيني صباح الجمعة رأيتُ أختي فسألتها فورا: "التحرير لسه معانا؟" فقالت: "آه". فنطقتُ الشهادتين وقلت خلاص انتصرنا. الآن أحكي لك هذه الذكريات لأذكرك عزيزي القارئ بأنك سهرت مثلي وأكثر وخفت وبكيت و... لسنا وحدنا طبعا بل كان الملايين مثلنا: ليبراليين وإسلاميين ومسيحيين وشيوعييين وملاحدة وزنادقة وأبالسة و..... هل يعقل بعد هذا التاريخ الإنساني الذي أبهر العالم، أن نواجه بعضنا كأعداء على أرض هذا الميدان نفسه؟؟ لا أريد أن أتصور الأمر ولو على سبيل الكابوس. مازلت مختلفا بشكل جذري مع فكر القوى الإسلامية كلها، لكن هذا الاختلاف إذا استمر في الانحراف نحو الاستعداء والصراع سيصبح خطيرا فعلا. وأنا أعترف أنني مع بداية هذه الموجة بدأتُ أكتب موضوعات وتعليقات على الفيس بوك فيها سخرية عنيفة واستعداء واضح للإخوان والسلفيين بعد شعوري بإحباط شديد من أدائهم السياسي خاصة مع المجلس العسكري، حتى لاحظت بالتدريج أن صفحتي على الفيس بوك بدأت تتحول لساحة معركة بيني أنا وأصدقائي الفنانين والليبراليين من جهة وأصدقائي المنتمين للقوى الإسلامية من جهة أخرى، ولاحظت أننا بدأنا نخسر بالتدريج هذا الهامش الجميل، هذه ال10% المدهشة التي بيننا. كان هذا خطأ كبيرا وسخيفا ارتكبتُه مع كثيرين منا دون قصد، ومع تنبيه بعض أصدقائي المخلصين شعرتُ بالندم... تقتضي الثورة منا أن نكون متيقظين وقادرين على اكتشاف أخطائنا والاعتذار عنها، وأنا هنا أول المعتذرين عن ذلك الخطأ. لكن ذلك بالطبع لا يمنعنا من الاختلاف والحوار حول اختلافنا، دون أن ننسى أننا "كلنا مع بعض... كلنا إيد واحده". لذلك أريد أن أطرح على أصدقائي من شباب الإخوان رأيي في أزمة الجماعة حاليا، وهي أن إدارة الجماعة ممثلة في مكتب إرشادها تتكون من شيوخ سبعينيين وثمانينيين لا يمكنهم أبدا (حتى مع حسن نواياهم) أن يعبروا عن ثورتنا أو يدركوا أبعادها كما يدركها شباب الجماعة، هؤلاء الشيوخ ينتمون لجيل لا يمكنه فهم طبيعة حياتنا، يدل على ذلك رؤيتهم لمفهوم الطاعة في الجماعة وأداؤهم مع شباب الإخوان الذين هم أقدر كثيرا على التعامل مع ظروف ثورتنا الفتية. سيختلف معنا هؤلاء الشباب لكنهم لن يتهمونا بالعمالة والوقيعة و... هناك مقولة أعجبتني مؤخرا هي: يجب أن يرحل مبارك وأن ترحل معه معارضته أيضا. هذه المقولة لا تتهم أحدا لكنها تدل على أن الفكر المعارض الذي تأسس في تلك المرحلة سيجد صعوبة بالغة في التعامل مع مرحلتنا الآنية، وأنا أعتقد أن القيادات القليلة المخلصة التي نشأت وتأسست في أحزاب المعارضة الكرتونية أيام مبارك لن يمكنها أيضا (رغم حسن نواياها) أن تقود ثورتنا لأنها لم تؤسس لها من البداية. "ما تسيبوا حبة فرح يتسرسبوا فينا نصبتوا ليه الفرح وفرحتوا ليه فينا دم الشهيد اتمسح بس الجراح فينا فينا مكفينا فبلاش بقى استعباط". أرجو أن تنتهي حقبة الاستعباط بسرعة حتى لا تصبح علامة سوداء في التاريخ المصري الحديث.