المتناقضات العنيفة التي يتسم بها السلوك العام للمجتمع المصري لابد أن تدعو للحسرة وتحفز علي الاكتئاب، ولعلها الأنسب لقول العبارة المصرية الأشهر (مافيش فايدة)! وليس من قبيل المبالغة أن نراها وباءً أصاب جميع فئات المجتمع بكل مستوياته وأطيافه المختلفة، إذ لا نجد مجلساً من المجالس أو أي تجمع لأصدقاء أو أسرة أو معارف أو حتي أي لقاء عابر جاءت به الصدفة البحتة إلا ويكون الهم العام هو البطل المحتكر للحديث كله، مشاكل البلد من فوضي وتسيب وإهمال ومحسوبية ورشوة وفساد، وإذا ما علا الإحساس بالثقة ونشأت حالة سريعة من الانسجام يتصاعد الحديث إلي درجة أسخن ويبدأ الهمس في الأذن عن فلان وعلان المشهور ممن أكل الفساد علي ضمائرهم وشرب، والمدهش أنه لا يكون مجرد كلام مرسل أو إشاعات وإنما كثير منها يأتي علي لسان شاهد عيان وربما من أهلها، بل أحيانا تكتشف أن هناك معلومات أكثر وأخطر في جعبة الراوي أو الشاهد تشيب لها الولدان كما يقولون ولا يجرؤ علي البوح بها، خوفا طبعا وحرصا علي لقمة العيش !!،ولقمة العيش هذه والله هي سر البلاء وربما هي آفة هذا الشعب الذي يسخر ويشكو من نفسه عمال علي بطال!لأن المسألة في الحقيقة ليست لقمة بالتأكيد حتي وإن أصبح لها طابور من الغلابة للحصول عليها وإنما هي ثمن يراه المعظم يجب أن يُدفع كي لا يفقد مايحصل عليه سواء أكان حقه الذي يستحقه أو أكثر أو أقل، المحصلة هو الحفاظ علي ما تأتي به الحكومة، والحكومة نابها أزرق، إذا ما وضعت مواطنًا في دماغها فقل عليه السلام!!والغريب أنك إذا أخذت موقفاً إيجابياً في مواجهة إجراء ما أو سلوك يشوبه الفساد أو ينطوي علي ظلم بيٌِن مثلا فإنك سرعان ما تجد هؤلاء المعترضين علي ما يحدث في البلد، يشكلون فريق عمل ويلتفون حولك مؤنبين وناصحين ومهدئين من ثورتك، يتهمونك بالجنون لأنك تجرأت وتمسكت بالحق دون أن تفكر في أكل عيشك ومستقبل الأولاد وأنك مهما فعلت ومهما قلت لن يسمعك أحد ولن تنال إلا خراب بيتك، ويظلون هكذا حتي يعودوا بك إلي صفوفهم آمنا وطائعا عاقلا تسمع الكلام، يفعلون ذلك وهم يستشهدون بالآيات والحكم، ويأتيك كلامهم منمقا مرتبا، يشعرونك بسذاجتك وقلة خبرتك!، أما إذا ركبت دماغك المتهورة تجدهم لايكتفون بأن ينفضوا من حولك فقط ويتركوك في حالك تواجه مصيرك بل يتحولون إلي أعداء لك وربما يقفون مع من تحارب حتي يؤكدوا له أنه لا صلة لهم بك فيأمنون شره، وقد ينالون رضاءًَََ مضاعفا كان بعيد المنال من قبل، أذكر هنا حادث سقوط أحد الباصات وكان به ركاب، سقط في إحدي الترع وبدأ ينزلق حتي استقر علي جانبه، ومن حسن الحظ أن مياه الترعة لم تكن عميقة حيث توقف تسرب المياه إلي أقل من منتصف أجساد الركاب، خفت حدة الفزع الذي أصابهم عند السقوط، استطاع أحدهم بعد محاولات عديدة- وهم يتابعونه بشغف- أن ينفذ من النافذة التي تعلوه وعندما هم بالخروج وساعداه متعلقان بجانبي النافذة تزاحم الركاب حوله ممسكين بقدميه حتي لا يخرج، سيطر الذهول علي الرجل وهو يفهمهم أنه بمجرد خروجه سيتمكن من إنقاذهم، تجاهلوا ما قاله وأخذوا يشدون قدميه ليبقي معهم! في حالة مصرية فريدة وقاتلة! تتعثر في الخروج من المستنقع، تفزع من التمرد، تتقوقع علي آلامها، تتهيب أن تقول «لا» الصادقة ولو مرة وتأمن أن تقول «نعم» كاذبة مرات ومرات، المؤلم أنه وباء يصيب المثقفين وأنصافهم وأشباههم وُتحول من يُعرفون بالصفوة إلي سلع متعددة الأثمان، وبين البائع والمشتري ألف باب وباب من الصعب أن تسدها!! تخرج الجموع، تملأ الشوارع والطرقات، يرقصون، يعانقون بعضهم البعض احتفاءً بفوز فريقم في ماتش الكرة، يقنعون به عوضًا عن هزائمهم المتكررة في حياتهم اليومية وغدهم المجهول! ويُهدون انتصار أبنائهم إلي سارقيهم وناهبيهم مكتفين ب«نعمل إيه؟!»، تصور معي أن نصف هؤلاء وقفوا وقفة احتجاجية، فقط وقفة صامتة دون كلمة واحدة ماذا يمكن أن تفعل حكومتنا الرياضية والتي تستمر وتتوحش علي هذه الحالة أو الوباء المصري الصنع؟!، إنه مستنقع عسير يحتاج لمعجزة تماثل سقوط خط بارليف، في زمن السلم والاستقرار والكساح.