أفرز الواقع المصرى على مدى عقود تشوهاً فى قرار الناخب الذى غالباً ما استند للمصلحة الفورية المباشرة بدليل قيام النواب بدور "الواسطة" لمواطنى دائرتهم فى التعيين والسفر والعلاج، لذلك يكون التصدى للفقر هو العلاج طويل المدى لبناء ديموقراطية قوية من خلال تكوين ناخب مستقل الإرادة لا يخضع لإغواء كراريس المدارس وشنط رمضان وزجاجات الزيت فى استمالة الأصوات (لاحظ توقيت الانتخابات القادمة: سبتمبر يواكب العيد ودخول المدارس وهو موسم مزدوج شديد الإرهاق لميزانية البيوت المصرية)، ومن جانب آخر يسفر ترتيب هموم الوطن حسب عدد المتضررين عن الأولوية القصوى للفقر، وهى فى ظل مجتمع يعيش 40% منه تحت الخط العالمى للفقر (نحن نتكلم عن 30 مليوناً على الأقل)، وهو عدد يفوق المتضررين من بقاء أو حذف أو تعديل المادة الثانية من الدستور-على أهميتها كونها مؤشر على هوية مصر- إلا أننا نعلم جميعاً أن المصرى سيظل متديناً سواء مسلماً او مسيحياً، ولن يتغير الواقع الحياتى اليومى سواء بقيت هذه المادة أو لا، نحن شعب متدين مع غياب أو وجود النص الوضعى، وكنا كذلك منذ فجر التاريخ نضفى على الدين مكانة خاصة بدليل قدرة الفرعون على حشد المصريين القدماء البسطاء على القيام بأعمال شاقة كبناء الأهرام على سبيل المثال تقرباً لمن كانوا يعتقدون أنه الفرعون-الإله وإيماناً منهم بالحياة الأخرى بعد الموت، أى أن الدين منذ آلاف السنين جزء من نسيج حياتنا اليومية لا يحتاج للافتة مميزة لكى نعيشه. ما أقصده هو أن الحجم الإعلامى للجدل العام بشأن علاقة السياسة بالدين لا يتلائم مع أولويات الغالبية ويأخذ حيزاً من صفحات الجرائد ووقت الإرسال التلفزيونى كان من الممكن الالتفات فيها لقضايا الفقر المتشعبة والتى تؤدى لنصرة الدين أيضاً، ومن هذه القضايا مكافحة ظاهرة أطفال الشوارع أو الدعارة أو مساعدة الغارمين وغيرها من رفع الظلم والأذى، ومن هنا تظل قضية علاقة الدين بالسياسة -متمثلة فى المادة الثانية من الدستور- قضية نخبوية رغم مخاطبتها للمشاعر الدينية لكنها فى النهاية لن تضر المصالح أو الحياة اليومية للمواطنين ويمكن تأجيل مناقشتها بعض الوقت. وتدل نتائج استطلاع الرأى الأخير للمصريين الذى أجرته الباحثة داليا مجاهد بمعهد جالوب الأمريكى على احتلال الاقتصاد المرتبة الاولى ضمن اهتمامات المواطن، أى أنه الفقر مرة أخرى، الفقر بمعناه الشامل لا يقتصر على ضعف الإمكانيات المادية أو أن يقع الفرد فى طبقة اقتصادية معينة فحسب، بل يعد الفقر الوجه الآخر لسوء توزيع الموارد المادية والخدمية بصفة عامة، وبهذا يشتبك الفقر مع قضايا أخرى تدخل فى صميم السياسة وإحساس المواطن بالأمن: مثل الأجور وفقر التعليم وفقر الجهاز الصحى بل وفقر المعلومات وفقر الإعلام، فالعبرة فى الفقر بمدى إتاحة الموارد للجميع بأكبر قدر ممكن من العدالة بحيث لا يحرم مواطن مصرى من فرصة تعليم أو علاج أو حياة كريمة لأنه تصادف أن ولد لأبوين فقيرين، ومن هنا يمس الفقر آلاف المهمشين الذين يفضلون إلقاء أنفسهم إلى المجهول ليبتلعهم البحر يأساً منهم فى فرص التمثيل والعدالة والكرامة فى بلدهم. لا يمكن التصدى للفقر بطريقة مستدامة من خلال المساعدات الشهرية فحسب، لأنها على رغم أهميتها فى سد فجوة فى الدور المفترض للدولة فى تقديم حياة كريمة لمواطنيها غير القادرين إلا إنها تحول المواطن إلى متلقى سلبى لإعانة، ولذلك يجب التوسع فى دعم الفقراء من خلال تمكينهم من الوصول إلى الموارد المجتمعية بإمكانياتهم الذاتية، وبدون أى طنطنة اشتراكية فإن هذا هو الضمان الحقيقى للتنمية طويلة الأجل، بل من خلال تمكين الفقراء ليخرجوا من حالتهم المزرية استناداً إلى ما يملكونه من موارد ودعمها بما يتوافق مع أوضاعهم، مما يستلزم أجهزة الدولة الإنصات إليهم أولاً، ويحتاج كل ما سبق رؤية مستقبلية وطفرة إبداعية فى تناول الفقر فى الحوار المجتمعى العام، بحيث لا يقتصر تصويرهم كضحايا نبكى على مصائرهم يستجدون الاهتمام والمال فحسب، بل أيضاً من خلال تسليط الضوء الإعلامى على النماذج الناجحة التى خرجت من طوق الفقر بالعمل الشريف والتعليم والاجتهاد، بدلاً من التركيز على النماذج التى مرت بالحراك الاجتماعى عن طريق السفر للخارج أو ضربة الحظ أو الفساد أو تجارة العملة أو الآثار أو الأعراض. يبدو أن النقاش المجتمعى والسياسى الحالى حول مزيد من الاهتمام ببنك للفقراء على غرار تجربة البنوك المتخصصة فى القروض متناهية الصغر للفقراء على يد محمد يونس مؤسس بنك جرامين فى بنجلاديش والحائز على جائزة نوبل للسلام فى عام 2006، قد يسفر عن مزيد من الاهتمام بشريحة عريضة من المجتمع المصرى دون التناول التقليدى للعشوائيات ذات الصريخ والإجرام والميلودراما، بل المليئة بتفاصيل دقيقة ويومية لآلاف القصص الدالة على الكفاح والأمل وحب الحياة والبقاء. وفى جميع الأحوال لا يمكن فصل مرحلة بناء مؤسسات اقتصادية قادرة على مخاطبة احتياجات الفقراء عن بناء المؤسسات السياسية وكلاهما يحتاج فى المرحلة الراهنة لشفافية ونزاهة ومشاركة من الجميع، لأن الفساد السياسى وتلكؤ وعدم إخلاص النظام السابق هو المسئول عن عدم التصدى للفقر بجدية وهمة فى السنوات الاخيرة، ولعل مصير النظام السابق عبرة لذوى الحكم والحكومات القادمة.