في الطائرة المتجهة للقاهرة صعدت فتاة شابة وجلست بالمقعد إلي يميني. الزي الذي ترتديه ونقوش الحناء علي يديها تشي بأنها خليجية وبأنها أيضاً عروس في أول الزواج. لكن الحقيقة أنها كانت مزعجة للغاية كثيرة الحركة.. تضع أغراضها في الرف أعلي المقعد ثم تعيد إنزالها.. تفتح الحقيبة وتستخرج شيئاً ثم تعيدها لمكانها مع صفق غطاء الرف بشدة كل مرة وهكذا. ظلت تتكلم في المحمول بصوت عال حتي أرغمتها المضيفة علي إغلاقه عند بدء تحرك الطائرة علي الممر. حاولت أن أجد مقعداً بعيداً عنها لأتجنب الصخب الذي تنشره حولي فوجدت مقاعد درجة رجال الاعمال التي نجلس بها مشغولة بالكامل. أخرجت من حقيبتها جهازاً صغيراً من تلك التي يقومون بتحميل مئات الأغاني عليها ووضعت السماعة في أذنها ثم أخذت تدندن وتتمايل مع الأغنية التي تستمع إليها وحدها. بعد قليل عبرت المضيفة وألقت لكل راكب ببطاقة الجوازات ليملأها حتي يقدمها عند الوصول. أمسكت بالقلم وشرعت في كتابة بياناتي علي البطاقة عندما فاجأتني الصبية الجالسة إلي جواري ومدت يدها نحوي بجواز سفرها وطلبت مني أن أملأ لها بطاقتها!. أدهشني أن فتاة مثلها لا تجيد القراءة والكتابة، ثم زادت دهشتي عندما وجدتها تحمل جواز سفر مصرياً علي غير ما ظننت. عندما أمسكت بالبطاقة والجواز اللذين قدمتهما لي نظرتُ إلي وجهها للمرة الأولي فوجدتها صبوحة الوجه ذات بشرة نضرة، ويمكن القول إنها فلاحة طازجة. أخبرني جواز سفرها أنها من مواليد 1992 يعني عمرها سبعة عشر عاماً وبضعة أشهر.. لا بأس فهذا ما تبدو عليه.. أما البأس كل البأس فهو أنها وكما هو مكتوب حاصلة علي دبلوم المدارس الصناعية!.. كيف بالله تكون حاصلة علي دبلوم صنايع أي قضت في التعليم 12 سنة متصلة ولا تعرف كيف تكتب اسمها وتاريخ ميلادها؟!. أما عنوان السكن المثبت في الجواز فقد أوضح لي أشياء كثيرة وجعل تفاصيل الأحجية تظهر وتبين. البنت تسكن في الحوامدية بشارع كذا.. والحوامدية لمن لا يعرف هي القرية الشهيرة الواقعة بالقرب من القاهرة والتي يعرفها رجال الخليج منتهيي الصلاحية من الباحثين عمن تعيد إليهم شبابهم المأسوف عليه وحيويتهم الضائعة، وإليها يشدون الرحال حيث يلتقون علي القهوة السمسار الشهير الذي يعرض عليهم صور صبايا القرية ليختار الرجل المسن منهم زوجته المقبلة نظير مبلغ بسيط يدفعه لأهلها الفقراء مع بعض الهدايا.. ثم يحملها معه ويطير بها إلي بلده. تفاصيل جواز سفر البنت الذي حملته بين يدي أوضح لي جانباً من المأساة وبيَّن لي جناية الحكم الحالي علي أهل مصر حيث لا تستطيع حاملة شهادة متوسطة أن تعبيء بيانات بطاقة الجوازات بعد انهيار التعليم، وحيث الملاذ لمن كانت في جهلها وفقرها وطزاجتها يكمن في رجل في سن جدها يأتي إليها من بعيد ليقطف زهرة شبابها ويمتص رحيقها مقابل الموبايل الأحمر والآي فون وبعض الخرز الملون!.