حقاً صدقت المقولة أن "لكل مجتمع الصحافة التى يستحقها" فالإعلام إفراز المنظومة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة، ولكى نفهم الإعلام المصرى علينا وضع ذلك فى الحسبان، من أبجديات التوعية السياسية فهم المنطق الإعلامى وفهم أهداف وسائل الإعلام لزيادة القدرة على تقييم مضامين الإعلام حتى لا يصبح الجمهور مجرد وعاء يصدق اى كلام دون نقد وتحليل، فيما يطلق عليه بالإنجليزية "محو الأمية الإعلامية" Media Literacy. توجد مؤشرات من الواقع تؤكد بالفعل فطنة الشعب المصرى وأنه لا يصدق كل ما يقال، لكن كلما أتقنت الكذبة أو تم التلاعب بطريقة الصياغة كلما بات من الأصعب التنبه إلى اللعبة الإعلامية ،مما يطرح تساؤل مهم: كيف نقرأ الإعلام ونتعامل مع فى اللحظة الراهنة؟ نقطة الانطلاق الأساسية أن لكل وسيلة إعلامية هدف وقصد اتصالى أو رسالة فكرية يريد الصحفيون تمريرها، والصحافة هنا بالمعنى الشامل للكلمة بما يضم العاملين فى قطاع الإذاعة والتلفزيون أيضاً، وهناك رسائل خفية يتم تمريرها منها إضعاف مصداقية الثوار أو الدفع بالجماهير إلى الشارع او التأكيد ان كله تمام يا أفندم، كما تشهد الساحة خطايا إعلامية وقع بها الجميع حتى الإعلام الجاد من أجل الاستحواذ على الجماهير ونيل السبق الصحفى، ومن هذه الخطايا عدم التوثق والنشر ثم التكذيب المتكرر والصياغات اللغوية المثيرة التى عهدناها فى الصحافة الفنية من عينة "أحمد زكى زوج جيهان السادات" ليتضح أن هذا بداخل أحداث فيلم، ومن عينة هذه العناوين المثيرة حديثاً " ساويرس يتحدى الإخوان المسلمين" لنجد فى النهاية أن حزب المصريين الأحرار يتحدى حزب الحرية والعدالة على عدد من المقاعد فى الانتخابات البرلمانية القادمة وهو لا علاقة له بطائفية العنوان، وعنوان آخر "مصر تعزل سيناء لمنع المشاركين فى مليونية التضامن مع فلسطين" كأن مصر خائنة وترغب فى منع الحشود التى ستقتحم حدودها الشرقية بمنتهى السلاسة لتصل القدس مساء نفس اليوم دون الإشارة إلى العواقب الوخيمة المحتملة على أمن البلد. فى أوقات التخبط والحيرة هذه يقع على عاتق القارئ والمشاهد مسئولية إدراك بعض الحقائق الأولية والتى يدركها العاملون والدارسون فى مجال الإعلام، وذلك من أجل تحكيم العقل اولاُ وأخيراً فإن كان اللى بيتكلم مجنون فالمستمع عاقل، وفيما يلى بعض أدوات تحكيم العقل فى الساحة الإعلامية المصرية الراهنة: أولاً: الواقع كما يعكسه الإعلام نتاج آليتى الاختصار والاختزال كأداة رئيسية فى الكتابة الصحفية نتيجة ضيق الوقت والمساحة، إضافة إلى السعى وراء الصراع والأزمات كمحرك لرؤية الواقع وبالتالى فإن العدسة الإعلامية ليست شفافة 100%. ثانياً: الوسيلة الإعلامية كالكائن الحى تدافع عن بقائها على قيد الحياة والذى لا يتسنى إلا بعدد من المشاهدين أو القراء الذين يأتون بالإعلانات، وفى مجتمعنا الصاخب لا يتم ذلك إلا بوجود قدر من الإثارة الصحفية للأسف. ثالثاً: المعروف أن النظام الإعلامى والسياسى وجهان لعملة واحدة، ومع تراجع التواجد الحزبى المؤسسى فى الشارع تراجعت الأحزاب القديمة لتصبح مؤسسات صحفية، ويبرز تأثير الملكية وعلاقتها بالنظام السياسى على المضمون الصحفى، فالصحافة الحزبية معروف من ورائها، وكذلك الصحافة القومية التى لا زالت فى مجملها تتبنى الخط الأساسى لذوى الحكم حتى بعد التغييرات، أما الإعلام الخاص فلا يكون بالضرورة مستقلاً فكرياً، فبعض القنوات التلفزيونية رأت أن الإغراق فى الترفيه وتجاهل الأحداث هو الحل، وبعض القنوات الأخرى مثل الفراعين والحياة مملوكة لرجال أعمال مهادنين مع النظام السابق وبالتالى فمن الطبيعى ألا تتبنى الخط الثورى تماماً، ولا يعنى ذلك ان قراءة الإعلام تتم وفقاً لنمط الأبيض والأسود فحسب، على العكس فهناك تدرجات من المعارضة حتى فى داخل الصحف المهادنة، مثلما توجد تدرجات من المهادنة والتعايش فى داخل المؤسسات الخاصة المعارضة. رابعاً: يغلب فى الإعلام المصرى سمة التعددية الخارجية ذات الاستقطاب الراديكالى، أى أن وسائل الإعلام المتعددة متنافرة فى مرجعياتها وقليلاً ما تتقاطع فى أهدافها أو تصوراتها، وبالتالى تندر التعددية الداخلية فى البنية المؤسسية الإعلامية المصرية إلا فى بعض الصحف الخاصة الحديثة التى تؤمن بالليبرالية الحقيقية، بما يتيح لأصوات مغايرة أن تعبر عن رأيها على صفحاتها قد تتعارض مع السياسة التحريرية للوسيلة الإعلامية باعتبارها الخط السياسى والفكرى الذى ارتضته، وكلما زادت نسبة الأيديولوجية بوسيلة إعلامية ما كلما كانت أكثر لفظاً لمن يخالفها فى الرأى، ويتضح ذلك فى وسائل إعلام التيار اليسارى والإسلامى بصفة خاصة. وينتج عن ذلك إرهاق للجمهور المصرى المنوط به البحث والمقارنة المستمرة ومع ضيق الوقت وقلة الوعى لدى البعض تزيد فرص التعرض لوسيلة واحدة فقط قد تكون أكثر تحيزاً فى النقل عن الواقع. خامساً: يبقى الحديث عن مهنية الأداء فى الممارسة الصحفية، وهو الذى من المفترض أن يزيد بنضج النظم الإعلامية بحيث تنبثق منها آليات للمسئولية الذاتية ووضع قيود أخلاقية على حريتها لينال خرقها احتقار الزملاء وعقوبات معنوية من النقابة، فحرية التعبير لا تعنى حرية التحريض كما قال عميد المراسلين الأجانب فى برنامج تلفزيونى شهير، والحرية من المفترض أن يكون عينها على الصالح العام أولاً وأخيراً، ليس بحجب الأخبار فقد مضى هذا العهد، ولكن بكيفية التعامل مع الخبر، فيما يطلق عليه الأكاديميون تأطير الخبر، وهنا لن أشير بالطبع إلى أخلاقيات الإعلام الكلاسيكية المفروغ منها مثل حق الرد والتصحيح وعدم الخلط بين التحرير والإعلان. أخيراً تبقى الإشارة السريعة إلى دور وسائل الإعلام الحديثة مثل الشبكات الاجتماعية كالفيسبوك والتويتر والمدونات باعتبارها مجال للهواة ولا ينطبق عليها آليات الإعلام المؤسسى باعتبارها فى الأساس ليست مهنة يتكسب صاحبها من خلفها ، إلا طبعاً لو كان عضواً فى لجنة إلكترونية تابعة لحزب أو جماعة ما، وسوف يطرح المستقبل القريب ضرورة إرساء آليات لتنظيم بعض صفحات الفيسبوك المنظمة وغير الفردية مثل رصد وغيرها ضرورة الإفصاح عن ملكيتها وتمويلها تحقيقاً للشفافية ومراعاة لحق القارئ.