خيوط صناعة الفوضى تتشكل يوماً بعد آخر، لكن للأسف لا نرى حسماً أو مواجهة مسبقة، فقط ننتظر كل صباح كرة لهب جديدة يلقيها في وجوهنا أناس نستضيفهم في الفضائيات، ونهلل لهم، وعند وقوع الكارثة ننفعل ونغضب ونصدر البيانات، ثم ينتهي الأمر في المساء بمجالس عرفية وجلسات صلح، و"بوس لحى" ونظن أننا انهينا المهمة، حتى نفاجأ بكرة نار جديدة في اقرب صباح تالي. إشارات كثيرة قادت إلى فتنة إمبابة أهمها الشعور الظاهر للعيان بأن حكومة الدكتور شرف ضعيفة واهنة وربما قليلة الحيلة، وأن المجلس العسكري يريد أن يبقى على مسافة واحدة من الجميع حتى لا يغضب منه أحد، لكن هذه المسافة أصبح عنوانها التردد، والبطء في اتخاذ قرارات حاسمة وواجبة تؤكد الحقيقة الراسخة في نفوس كل المصريين بأن الجيش هو صمام أمان الأمة وحارس ثورتها وانتقالها لمستقبل تستحقه. ظاهرياً تبدو أسباب ضعف الحكومة كثيرة، فالاقتصاد أصابه الشلل، والاحتجاجات تجتاح الشارع المصري، وفلول النظام السابق تعربد في كل مكان، لكنني لازلت أؤمن بأن كل هذه الأسباب تتجمع في سبين اثنين هما غياب القانون واستمرار انفلات جهاز الشرطة وعدم القدرة على تطهيره وإعادته للعمل وفق رؤية جديدة وبوجوه بعيدة عن الشبهات وجماعات المصالح التي تتربص بالثورة والدولة المصرية. أما حالة التردد في الفعل والبطء في المواجهة الذي يتسم به أداء المجلس العسكري فمصدره بعض الضغوط التي يتعرض لها من جميع التيارات، فهو يطبطب على السلفيين ويتقرب لتيارات إسلامية أخرى ظناً بأنهم يشكلون أغلبية، وأن ضجيجهم صاخب في الشوارع لأنهم يستأسدون باسم الدين، بالمقابل يحرص على ألا يغضب الليبراليين والقوى الوطنية الأخرى لأنهم يمثلون وجه الثورة المشرق في الخارج ولدى شرائح الطبقة الوسطى من المصريين. هذه التفسيرات تبرر البطء والتردد لكنها لا تزيل الغموض عن كثير من المواقف، فنحن نقرأ تصريحات ولا نرى أفعال، هل يعرف أحد منا معايير تطبيق قانون البلطجة الذي استبشرنا خيراً حينما قيل أنه سيطبق على البلطجية ومثيري الفتن، لكنه غاب عن كثير من الجرائم مكتملة الأركان، لماذا لم يطبق على السلفي الذي قطع أذن القبطي أو الشباب الذين أحرقوا منزل امرأة رموها بالزنا دون قرينة، لماذا لم يعاقب بموجبه الذين دعوا لمهاجمة الكنائس والأضرحة، وحاصروا الكاتدرائية ، ولماذا لم نطبقه على الذين لم يقتنعوا بظهور الأخت كاميليا لتعلن مسيحيتها وأصروا على أنها خاضعة لضغوط ولا تزال مخطوفة. لقد أيد المجلس ما استنتجته عقولنا بأن هناك مؤامرة خارجية لا تريد للأمة المصرية مشروعاً للديمقراطية والحرية وتداول السلطة، لكنه لم يدعم قوله بأدلة تكشف للمصريين حقيقة هؤلاء المتآمرين على مستقبلهم وللأسف بعضهم أشقاء عرب. المحزن في كل ما يحدث أن الفاعلين في كل الجرائم معرفون بالاسم سواء كانوا بلطجية أو مثيري الفتن من التيارات السلفية، وبالنسبة للبلطجية أجزم ومعي كل المصريين بأن ضباط المباحث في جميع أنحاء مصر يعرفون البلطجية بالاسم، ويعرفون أوكار تجمعهم وكيف يوقعون بهم صحيح أن البلطجة زادت بعد الانفلات الأمني الذي تسبب فيه جهاز الشرطة، لكنهم نفس البلطجية الذين فرضوا قانونهم وسطوتهم على مناطق وقطاعات بأكملها قبل الثورة ، انظر إلى مواقف سيارات الأجرة ، تجول في قطارات الفقراء وأسفل الكباري، انظر إلى الباعة الجائلين هؤلاء جميعاً كانوا ميليشيا مدنية تمارس البلطجة على الشعب تحت سمع وبصر الشرطة وفي حمايتها، هم أنفسهم المرشدين الذين تعاونوا لسنوات مع السادة رؤساء المباحث، ومارسوا البلطجة والسرقة والنهب في حمايتهم وللأسف بالشراكة مع بعضهم. هل يستعصي أمر هؤلاء على القوات المسلحة إذا رغبت، هل توجد أي غضاضة في إرغام ضباط الشرطة على تسجيل ما لديهم من معلومات عن البلطجية وأماكن تواجدهم، أليسوا موظفين يتقاضون رواتب نظير تأمين الحماية للشعب. أعرف أن المواجهة صعبة ومكلفة، لكن متى ضن رجال القوات المسلحة بالتضحية من أجل مصر، مطلوب في هذه اللحظة الحاسمة حملات استباقية على أوكار البلطجية ومثيري الفتن ومطلوب إلزام من احضر العفريت بالمشاركة في صرفه، فرجال الشرطة الذي صنعوا هذه المليشيا المأجورة ملزمون بالتصدي لهم ومن يتقاعس يجب محاسبته بمنتهى الشدة. أما بالنسبة للسلفيين أو بعضهم- حتى لا نقع في التعميم- من الذين يشاركون في مسلسل التخريب الوطني منذ بدايته، فيجب التصدي لهم بكل حسم، وبالقانون، لا بالمجالس العرفية أو استدعاء نجوم السلفية للخطابة وإطلاق العبارات الرنانة ظناً بأن هؤلاء هم العقلاء المتسامحون. أكره التعميم واصدق أن هناك بعض السفليين لا يميلون إلى الفكر المتطرف لكن من هؤلاء الذين يرفعون شعارات اللهم انصر الإسلام بكامليا وعبير!، ومن هؤلاء الذين يحتشدون أمام الكنائس لاستجلاء حقيقة اختفاء الأخوات أليسوا سلفيين، أتمنى من رابطة منافقي العوام الذين يبرءون السلفيين من جريمة إمبابة أن يحترموا عقولنا وعيوننا. ورغم كل ذلك تبقى ثقتنا في الجيش لا حدود لها ولا أبالغ إذا قلت أن كفاءته واحتراف رجاله، ووطنيته العظيمة هي أكثر ما يغضب الحاقدين على الثورة في الداخل والمتآمرين عليها في الخارج، لذلك كل أملنا أن ينجز المجلس العسكري ما تعهد به من حماية للثورة وضمان مدنية الدولة وانتقال آمن للسلطة يحقق لمصر الاستقرار ويضمن مستقبل أفضل لأبنائنا. وتبقي كلمة أخيرة لأصدقائنا من الحقوقيين والمدافعين عن الحريات كفي هواجس تنتسب إلى تجارب قديمة تجاوزها التاريخ، فالعسكر لن ينقلبوا على السلطة بالمفهوم التقليدي الشائع في الخمسينات والستينات، لقد تبدلت المواقف والظروف، لا الوضع الدولي يسمح بانقلاب العسكر ولا أظن أنهم راغبون في ذلك، وأذكر كل الذين صوتوا لصالح التعديلات الدستورية وينتسبون لتيارات يسارية وليبرالية بأنهم يتحملون مسئولية تضخم التيارات الإسلامية حينما منحوها أغلبية كاذبة، فصار صوتهم أعلى وسقف طموحاتهم بلا حدود.