الحزن والحيرة والغضب والبلبلة مسيطرة على مشاعر غالبية المصريين وهم يرون أن مصر ما بعد الثورة تختطف منهم على أيدى بعبع الفتنة الطائفية الذى يعد بالفعل نقطة ضعف مصر، إلا أن لى تحفظات على استخدام هذا المصطلح على علته دون تدقيق فى الخلفية الاجتماعية للحدث ونشأته، فوفقاً للمصرى اليوم حتى الآن "كشفت التحقيقات والتحريات أن الأزمة تعود إلى شهر سبتمبر الماضى وبالتحديد فى منطقة ساحل سليم بأسيوط، حيث بدأت قصة حب بين شاب «31 عاماً» يدعى ....، وجارته المسيحية المتزوجة وتبين أنهما ارتبطا بعقد زواج عرفى وسافرا إلى بنها" أى أن المجتمع أكثر تسامحاً مع الرجل عن المرأة فى ممارسة حق حرية العقيدة، إذ يلاحظ تشابه كبير فى المقومات الاجتماعية لجرائم الشرف لأسرة الفتاة وبين أزمة إمبابة التى أخذت صبغة دينية نتيجة اختلاف خانة الدين فى البطاقة الشخصية لأطراف الخلاف، أى أنه إن حدث هذا الخلاف العائلى بين ناس أقباط فقط أو مسلمين فقط لكان مصيرها خبر صغير فى صفحة الحوادث وخلاص .. لن يزيد عن بضعة أسطر عن جريمة شرف لأسرة صعيدية تؤدب بنتها طالما الجانى والضحية من نفس الديانة، خاصة وأننا نعلم الشرع يبيح أن تظل المرأة أن تظل على دينها طالما من أهل الكتاب وأن دين الأولاد يتبع الوالد، يعنى نظرياً أن تشهر عبير إسلامها أو تظل قبطية لن يؤثر على مستقبل العمران البشرى للأمة الإسلامية، مما يرجح كفة التفسير الاجتماعية وأن الأمر يتعلق بخروج المرأة على طاعة أهلها، بكلمات أخرى فالزج باسم الدين له تأثير مهول فى تقبل الحشد الجماهيرى نتيجة مخاطبة العاطفة الدينية (نصرة الإسلام أو الدفاع عن الكنيسة) مع إضافة الفلفل والشطة فى مكان جغرافى ذى كثافة سكانية عالية، يعانى مشكلات المهمشين، يسهل فيه جذب العنف والترويج لاستخدامه، وإذ فجأة نجد "المولوتوف هو الحل" ليتساقط الضحايا من الجانبين، مما لم يورط أقباط ومسلمى المنطقة فقط، بل ألقى بالمسئولية الجمعية على مسلمى وأقباط مصر ليصبح كل مصرى مضطر للدفاع عن دينه وعن خطأ لم يتسبب به. ويعود اتساع الأزمة خارج نطاق الفاعلين الأصليين لأسباب اجتماعية فى المقام الاول: شيوع ثقافة النميمة دون التريث والاندفاع الأهوج والجهل، طبعاً دون إنكار النوايا الخبيثة للبعض مع بقاء إرث ثقافى لنظام سابق قام على مبدأ فرق تسد، مثل سؤال المسلمين "لم لا يتم تفتيش الكنائس مثل الأزهر"؟ يوازيه سؤال من الأقباط "لم لا نستطيع بناء دور عبادة بسهولة وعدل مثل المسلمين؟" لنشتبك فى جدل عن صاحب الامتيازات فى عهد ظالم برمته وننشغل عن توفير الكرامة والحقوق للجميع. وفى هذه الأزمة غضب السلفيون بشدة من ظلم الإعلام لهم، لكن الثابت أن بعض المسلمين، سواء سلفيون أو لا، أعطوا الفرصة لاندساس المتآمرين بتوجهم للكنيسة من البداية، وهنا تبرز تساؤلات محددة للنقاش: ما مسئولية بعض رجال الدين الذين يروجون لنظرة تخلو من التسامح بل بها ازدراء وشحن تجاه من يخالف دينهم؟ وهل يبارك أى دين سماوى ترويع الآمنين لم يفرق فيها الموت والحزن بين مسلم ومسيحى؟ لماذا نسى بعض المشايخ الأجلاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل المسلمين الأوائل لملك الحبشة المسيحى ليحميهم من بطش قريش؟ وما الرأى الدينى فى نشر الفتنة والتحريض على ترويع الآمنين من خلال دعوة صريحة مثبتة بالفيديو لحرق الكنائس دون أى رد حازم عليه؟ الإجابة عن هذه الأسئلة مهمة لأن المؤمن كيس فطن، وليس أداة يتم توجيهها عن بعد عند الاشتباه فى احتجاز شخص، بل عليه اللجوء للجهة القانونية المنوط بها هذا الدور التنفيذى وإلا أصر أى شخص على اقتحام أى مكان يتصور أن به ما يخصه، لكن طالما يغرس بعض الشيوخ فى أذهان الناس أنهم لا يفقهون ولا يجوز رد كلمة لهم مما أدى لرفع بعض الشخصيات إلى مصاف الأنبياء وينذر باحتكار المعرفة مثلما فعلت السلطة الدينية فى أوروبا فى العصور الوسطى المظلمة ليتحكموا فى عقول البسطاء كما يريدون بدلاً من أن يساعدوهم على التحرر المعرفى بإتاحة مفاتيح فهم القرآن والسنة وإعمال العقل والتدبر، على جانب آخر بالغت قلة من الأقباط فى الشطط والتهديد بالدول الأجنبية غضباً أوحزناً وهو ما لاقى رفضاً من الغالبية مع إثارة بعض القنوات الدينية مشاعر عدم الثقة تجاه المسلمين. الكل ينادى بتطبيق القانون وينادى بضرورة الردع، لكن على الطرف الآخر فقط في حين أن الخطأ متبادل، فمن بادر بالتوجه إلى الكنيسة مخطئ فى رؤيته لنصرة الإسلام ومن بادر بإطلاق الرصاص خوفاً أو تآمراً مخطئ كذلك ليسود الذعر والتعصب للذات والثأر فى الليلة الحزينة، وكان كلا الطرفين ضحية التلاعب بمشاعرهم الدينية الغيورة وسيكولوجية الجماهير التى لا يحكمها عقل، فنجد أن جرثومة الفتنة تم تهويلها من مستصغر الشرر (أزمة عائلية) لينشغل المصريون بتبادل الاتهامات وانعدام الثقة في حين أن المتسبب الحقيقى فى الكارثة لا مسلم ولا مسيحى، بل مجموعات خارجة على القانون تمارس العنف والتطرف كما وصفها د. عمرو حمزاوى، ولا يمكن وصفها بأى وصف دينى لأن الأديان السماوية تنأى بنفسها عن ذلك بدليل استنكار الجميع للكارثة. أخيراً أريد أن أذكر رافضى فكرة الفلول بالآثار السلبية المترتبة على الأزمة: مزيد من الإضعاف لمصر فى ظرفها الراهن من خلال تشتيتها وإلقاء العثرات أمام المسار الديموقراطى، تعطيل تطهير وبناء النظام السياسى والاجتماعى، إضعاف مصداقية حكومة شرف والترويج لعدم كفائته رغم أن الملفات منهمرة والظروف كارثية بل طالب أحد رموز المتحولين مؤخراً باستقالته وهذا مؤشر خطر ودال على فشل الحكومة التى حملها الثوار على الأعناق، وكذلك التشكيك فى مدى جدية المجلس العسكرى يعنى الضرب على وتر وحدة الشعب والجيش (بدليل اتهام المجلس العسكرى بالتباطؤ فى تأمين المنطقة)، تراجع الحريات لأجل الأمن فبعد أن كنا ننتقد الاداء الشرطى المفرط فى القوة أصبحنا نهلل "للضرب فى المليان" تحقيقاً للأمن ونستجدى الشرطة أن تعود بكامل قوتها المسلحة، وهو بالرغم من أهميته كأداة للردع يمكن أن يساء استغلاله حقوقياً فى إطار عدم تفعيل دولة القانون تماماً، وأخيراً من التداعيات السلبية التغطية على أحداث أخرى من الأولى أن نهتم بها. بعيداً عن طنطنة الوحدة الوطنية وعناق اللحى المسلمة والقبطية أو استخدام عبارات مبهمة من عينة الأصابع الخفية أو البعبع الأجنبى... روشتة العلاج باختصار شديد: على المدى القريب إحلال الامن وسيادة القانون على الكل دون استثناء وفوراً، وعلى المدى البعيد التعليم ثم التعليم ثم التعليم، لأن الوعى المسئول هو الحامى الحقيقى من الفتن، حتى لا يتحول المهمشون إلى قنابل موقوتة، ودعونى أقتبس مقولة د. البرادعى فى حواره مع منى الشاذلى منذ أسبوع "لو هنتكلم عن الإسلام يبقي لازم نتكلم عن ال 34 % اللي مش بيعرفوا يقروا القرآن"أى أنهم عاجزون عن قراءة كلام الله بنفسهم وينتظروا من يفسره لهم بتبعية مركزية بدلاً من حرية الاختيار بين مختلف التفاسير. بالرغم من كل اليأس والحزن لن يثنينا شئ عن المضى فى الطريق الصحيح بل أن اكتشافنا أن القربة بها ثقوب أكثر مما ينبغى لن يزيدنا إلا إصراراً على الحلم المصرى.